قبل أيّام بثّ مواطن طرابلسي تسجيلاً صوتياً على منصّات مواقع التواصل الإجتماعي، أوضح أنّه قصد صيدليات خارج مدينة طرابلس لشراء دواء لم يعثر عليه في صيدليات المدينة، التي باتت تعاني في الآونة الأخيرة من نقص كبير في أصناف كثيرة وعديدة من الأدوية، نتيجة فقدانها من السوق أو تخزين التجّار والصيدليات لها، وعندما عثر على ذلك الدواء في إحدى الصيدليات سأله صاحبها: ″هل أنت من المنطقة؟″، ردّ عليه بالنفي قائلاً: ″أنا طرابلسي″، فاعتذر منه صاحب الصيدلية، ورفض بيعه علبة الدواء، موضحاً له أنّه لا يبيع الأدوية إلا لزبائنه ومن أهل منطقته حصراً.
هذه الحادثة ليست الوحيدة، وهي تكرّرت كثيراً في الآونة الأخيرة، سواء بما يتعلق بالدّواء أو بالمحروقات، وتحديداً البنزين والمازوت، إذ في حين تعاني محطّات مدينة طرابلس من إزدحام كبير وامتداد الطوابير أمامها مئات الأمتار، ووقوع إشكالات عدّة فيها بين المواطنين وموظفي وعمّال المحطات، وتقتيرها في بيع المحروقات للزبائن، فإن محطّات المحروقات في خارج طرابلس تعمل بشكل طبيعي، ولا تشهد إزدحاماً، ويمكن لأيّ مواطن أن يملأ خزّان سيّارته بالكمية التي يريدها من المحروقات، ومع ذلك فإنّ بعض هذه المحطات خارج طرابلس ترفض بيع المحروقات لزبون من خارج منطقتها، تحت حجّة تأمين هذه المحروقات أولاً لزبائن المحطة وأهالي المنطقة قبل غيرهم.
هذه المشاهد غير المقبولة لا تقتصر فقط على طرابلس ومحيطها، فأغلب المناطق اللبنانية باتت تعاني من هذه الظاهرة، إذ بات أصحاب محطات المحروقات وأصحاب الصيدليات يرفضون تلبية طلب أي مواطن يريد شراء دواء أو صفيحة بنزين أو مازوت إذا كان من خارج المنطقة الموجودة فيها المحطة أو الصيدلية، وهي ظاهرة أقل ما يمكن أن يُقال فيها بأنّها خطيرة، وتتجاوز كثيراً مفاهيم الأمن الذاتي والإكتفاء الذاتي التي انتشرت وازدهرت إبّان الحرب الأهلية، وتوحي بأنّ اللبنانيين يعيشون حرباً أهلية، لكن من غير أن ترتفع الحواجز والدشم بين مناطقهم.
وما يزيد القلق من تنامي هذه الظّاهرة من دون وضع حدّ لها، ومعالجتها، ومعالجة جذور المشكلة من أساسها، أن تمتد إلى رغيف الخبز ولقمة عيش المواطنين الفقراء، وأن ترفض، في مرحلة لاحقة، الأفران بيع ربطة الخبز لمواطن ليس من منطقتها أو طائفتها ومذهبها وحزبها.
هذه الظاهرة التي باتت تتنامى كالفطر، وتمتد لتشمل جميع أنواع السلع الإستهلاكية الأساسية، تعكس أمرين في غاية الخطورة: الأمر الأوّل هو غياب التضامن الإنساني والإجتماعي بين مكوّنات الوطن الصغير، بشكل يبدو معه أنّ الإنقسامات التي طالته خلال سنوات الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، وقبلها وبعدها، ما تزال حاضرة بقوّة ومتجذّرة في المجتمع اللبناني، فلم يتعلم أحد من دروس الماضي، ولم يعمل أحد طيلة السنوات الماضية على تعزيز وترسيخ مفاهيم التضامن الإنساني والوطني بين عموم المواطنين، بل فعلوا العكس للأسف.
أمّا الأمر الثاني فيتمثل في غياب الدولة بكلّ إداراتها وأجهزتها عن معالجة هذه الظاهرة الخطيرة وفي وضع حدّ لها، إلا بشكل خجول، إذ تبدو الدولة وكأنّها إستقالت رويداً من مهامها، تاركة البلد أشبه بغابة، القوي يأكل فيها الضعيف، وكل قطيع طائفي أو مذهبي أو حزبي يلتف حول نفسه ويتقوقع بشكل إنعزالي، ما يعيد لبنان ليس إلى سنوات الحرب الأهلية، بل إلى عصور التخلّف والجهل التي تتناحر فيها القبائل والطوائف من أجل أي شيء تافه، فكيف إذا كان الأمر استفحال الوضع المعيشي مستقبلاً، والصراع على صفيحة محروقات أو علبة دواء أو ربطة خبز!
مواضيع ذات صلة: