تنشر ″سفير الشمال″ على حلقات كل يوم ثلاثاء دراسة حول طرح “الحياد” أعدها الباحث صبحي عبدالوهاب، وفيما يلي الحلقة الخامسة..
تشرح مذكرة غبطة البطريرك بشارة الراعي معنى الحياد الناشط والايجابي وفيها أيضاً نداءه الى منظَّمة الأمم المتَّحدة التي طالبها بالعمل على إعادةِ تثبيتِ استقلالِ لبنان ووحدتِه، وتطبيق القرارات الدوليَّة، وإعلانِ حياده. فحيادُ لبنان هو ضمانُ وحدته وتموضعه التَّاريخيّ، وبخاصَّةٍ في هذه المرحلة المليئة بالتَّغييرات الجغرافيَّة والدستوريّة.
حيادُ لبنان برأي الراعي هو قوَّته وضمانة استقراره. فلبنان الحياديُّ هو القادر على المساهمة في استقرار المنطقة والدِّفاع عن حقوق الشُّعوب العربيَّة وقضيَّة السَّلام، وعلى لعب دورٍ في نسجِ العلاقات السَّليمة والآمنة بين بلدان الشَّرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسِّط”.
وتتمحور الموجبات حول حيادُ لبنان، كنظامٍ دستوريٍّ، لم يكن حاضرًا في ذِهنِ مؤسِّسي دولة لبنان الكبير، لكنَّه كان حاضرًا كسياسةٍ دفاعيّةٍ وخارجيَّةٍ يَتّبِعُها هذا الكيانُ الصَّغير والجديد ليُثبِّتَ وُجودَه ويُحافظ على استقلالِه واستقرارِه ووِحدِته وهويّتِه.
أثناءَ وضع الدستور اللُّبنانيّ سنة 1926 طلب المفوضُّ السَّامي الفرنسيّ هنري دو جوفنال من حكومتِه أن تُرسِل له نسخةً من دستور سويسرا إذ وجده مناسبًا للتركيبة اللُّبنانيَّة.
وتأكَّدَتْ هذه النَّزعةُ سنةَ 1943 حين أعلنَتْ حكومةُ الاستقلال أنَّ لبنان يَلتزِم “الحيادَ بين الشَّرق والغرب”، وشَدَّد عليه سنة 1945 لدى وضعِ ميثاقِ جامعةِ الدولِ العربيَّة الذي جعَلَ قرارات الجامعة غير مُلزِمةٍ حتَّى لو اتُّخِذت بالإجماع.
وأكَّدَت الأعمال الإعداديَّة لهذا الميثاق والمداخلات أنَّ “لبنان دولة مساندة، وليس دولة مواجهة”. فيكون هكذا عنصر تضامن بين العرب، وليس عامل تفكيك وتغذية للنِّزاعات العربيَّة، وخروجًا عن التَّضامن العربيّ لصالح استراتيجيَّات تخدم أنظمة غريبة، ولا تخدم المصالح العربيَّة المشتركة. كانت فكرةُ الحياد تعود بتعابير مختلفةٍ في خُطَب رؤساءِ الجُمهوريَّة وفي البيانات الوزاريَّة وفي كلِّ بيانٍ وطنيٍّ يَصدُر عن هيئة حوارٍ وصولًا إلى 12 حزيران 2012 مع “إعلان بعبدا” الذي تمَّت الموافقةُ عليه بالإجماع وقد تضمَّنَ بوضوحٍ عبارةَ ” تحييدِ لبنان” وأُرسِلَ هذا “الإعلان” إلى الأمم المتَّحدة، وتمَّ توزيعه كوثيقةٍ رسميَّةٍ من وثائق مجلس الأمن والجمعيَّة العامَّة (راجع الوثيقتين: A/66/849 و S/2012/477 ) وصدرَ عن مجلس الأمن بيان بتاريخ 19/3/2015 يدعو الأطراف اللُّبنانيَّة التقيُّد بما ينصُّ عليه هذا “الإعلان”.
وبفضل هذه السِّياسةِ الحكيمة تمكَّن لبنان من المحافظة على وِحدةِ أراضه رغمَ مشاريعِ الوحدةِ العربيَّة، ورغمَ جميع الحروب العربيَّة/الإسرائيليَّة. فجميعُ البلدان المتاخِمةِ لإسرائيل (سوريا، الأردن ومصر) خَسِرت أجزاءَ من أراضيها باستثناءِ لبنان. وإذا بتحييد لبنان النِّسبيِّ عن صراعاتِ المنطقةِ ما بين 1943 و 1975 أدَّى إلى الازدهارِ والبحبوحةِ، وزيادةِ النموِّ، وارتفاعِ نسبةِ دخلِ الفَرد، وتراجعِ البطالةِ حتى دُعِيَ لبنانُ “سويسرا الشرق”.
وتَعكَّرت تلك الحِقْبةُ سنة 1958 حين حاول الرَّئيس المصريّ جمال عبد الناصر ضمَّ لبنان إلى الوِحدةِ المصريَّة/السوريَّة العابرةِ. لكن سرعان ما تجاوز اللُّبنانيُّون تلك المحنة وتصالحوا وأكملوا دربَ بناء الدَّولة. إنتكس التوازنُ اللُّبنانيُّ مع دخولِ العامل الفِلسطينيّ إلى المعادلة الدَّاخليَّة وانطلاق العمل المسلَّح الفلسطينيّ في لبنان وانحياز فئةٍ من اللُّبنانيِّين إليه، الأمر الذي أدَّى لاحقًا إلى نشوب الحرب سنة 1975.
وتجاه الانقسام المسيحيّ/الإسلاميّ الذي عطّل الحكمَ، أذعنت الدَّولةُ اللُّبنانيَّة وقَبِلَت التَّنازل عن سيادتها، ووقَّعَت سنة 1969 “اتفاق القاهرة” الذي سمحَ للمنظَّمات الفلسطينيَّة القيامَ بأعمال عسكريَّة ضدَّ إسرائيل انطلاقًا من الجنوب اللُّبنانيّ.
وكَرَّت سُبحةُ انحياز الدَّولة وفئات لبنانيَّة إلى النِّزاعات العقائديَّة والسِّياسيَّة والعسكريَّة والمذهبيَّة في الشَّرق الأوسط. احتلَّت إسرائيل جنوب لبنان (1978/2000) وسيطرت المنظَّمات الفلسطينيَّة على الجزء الباقي وصولًا إلى وسط بيروت (1969/1982)، ثم دخلَت القوَّات السُّوريَّة لبنان (1976/2005) ونشأ حزب الله حاملًا مشروع الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة بأوجهه الدِّينيّ والعسكريّ والثَّقافي(1981).
وقعَتْ جميعُ هذه الأحداث بسبب خروج لبنان عن سياسة الحياد المتعارف عليها من دون نصٍّ دستوري. هكذا فقدت الدَّولةُ سلطتَها الدَّاخليَّة، والكيانُ سيادتَه الحدوديَّة، والوطنُ دورَه السِّياسيَّ والصيغةُ توازنَها، والمجتمعُ خصوصيَّتَه الحضاريَّة. ونتجت عن هذا الاختلالِ صراعاتٌ جانبيَّةٌ داخليَّةٌ لا تَقِلُّ ضراوةً عن الحروبِ الأساسيَّة. وها هو لبنان يترنَّح حاليًّا بين الوحدة والانقسام. وهكذا، كَشفت تجربةُ المئة سنة (1920/2020) من حياة دولة لبنان الكبير أنَّه يتعذَّر على لبنان أن يكون وطن الرِّسالة من دون اعتماد نظام الحياد. فالانحياز إلى صراعات دول الشَّرق الأوسط وشعوبه عابَ صيغةَ الشَّراكة بين المسيحيِّين والمسلمين بأوجهها الرُّوحيَّة والوطنيَّة والإنسانيَّة. فأصبح لبنان في حالة تفكُّك، وفشلت جميع الحلول والتَّسويات، وما عاد يُنقِذ وحدتَه واستقلالَه واستقراره سوى الحياد. ذلك أنَّ الخلافات بكثافتها وعمقها تُهدِّد الكيان لا الدَّولة فقط، وإعلانُ حياد لبنان هو فعلٌ تأسيسيٌّ مثل إعلان دولة “لبنان الكبير” سنة 1920 وإعلان استقلال لبنان سنة 1943. الفعل الأوَّل منع ذوبان اللُّبنانيِّين في الوحدة العربيَّة الإسلاميَّة ومنحهم نظامهم الديمقراطيّ البرلمانيّ والعيش المشترك. الفعل الثَّاني أعطى السِّيادة للدَّولة النَّاشئة وثبَّتَ دورها المستقلّ في منظومة الأمم. والفعل الثَّالث، الذي نعمل على تحقيقه، يمنع تقسيم لبنان ويحميه من الحروب ويحافظ على خصوصيَّته. فالحياد هو “عقدُ الاستقرار” بعد عَقدَي الوجود والسِّيادة.
مواضيع ذات صلة: