تنشر ″سفير الشمال″ على حلقات كل يوم ثلاثاء دراسة حول طرح “الحياد” أعدها الباحث صبحي عبدالوهاب، وفيما يلي الحلقة الأولى..
طرح البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي موضوع الحياد، فبرزت الكثير من التساؤلات حول توقيته وأبعاده وخلفياته، كما بدت الإنقسامات الحادة ترخي بظلالها على مختلف الأوساط السياسية اللبنانية. فإعتبر فريق انّ لبنان الذي بلغ الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي حدّ الخطر على وجوده الكياني وبات لا مناص له من تحييد نفسه عن نزاع المحاور الاقليمية والدولية، على إعتبار ان سبب الاوضاع التي يعاني منها اللبنانيون يعود الى إنغماس بعض القوى السياسية في هذا النزاع، ما جعل المجتمع الدولي والدول المانحة والداعمة العربية والأجنبية تحجم عن تقديم أية مساعدة للخروج من هذه الأزمة المتفاقمة وتخطي تداعياتها المالية والاقتصادية والمعيشية الخانقة.
ورأى فريق آخر أن طرح الحياد في ظلّ هذه الظروف التي يتعرّض فيها لبنان لضغوطات سياسية ومالية واقتصادية، إنما تستهدف في جوهرها حزب الله وحلفاءه، لانتمائهم الى محور المقاومة والممانعة، وتجعل منه ساحة لنزاعات خطيرة على المستويات اللبنانية والعربية والإقليمية والدولية.
وأمام هذه الإشكالية المحورية فقد أصبحت مسألة الحياد مطروحة أمام نقيضين.
وهنا دراسة تحاول رصد أسباب ودوافع الخلاف والكشف عن المواقف المتناقضة حيال أطروحة “الحياد” التي لم تكن في أية مرحلة من مراحل التاريخ السياسي اللبناني إلا مادة ملتهبة تفتك في جسد الوطن اللبناني المصاب بأمراض مستعصية إنسانياً وإقتصاديا وإجتماعياً.
حينما فتح السياسي والديبلوماسي الراحل محمد علي حمادة (1907- 1987) “ملف عدم الإنحياز” على صفحات “مجلة القضايا المعاصرة”، الصادرة عن دار النهار للنشر، في تموز/ يوليو من العام 1970، رأى في “عدم الإنحياز” عبارة مبهمة مطاطة، كثيراً ما يختلف حول مراميها وأبعادها، ذلك، أن وراء كل عبارة تطلق كشعار لمؤسسة دينية أو سياسية تاريخاً طويلاً وجذوراً تضرب في كل ناحية من نواحي الفكر السياسي والمواقف المبدئية والعملية.
ولا يمكن تحديد المعنى الحقيقي لهذه الحركة التي تسمى “عدم الإنحياز” إلا إذا رجعنا الى أصولها. وهذه الأصول- القريبة منها على الأقل – تعود الى العام 1955، الى “مؤتمر باندونغ” وما سبقه وما جرى أثناء إنعقاده، فضلاً عن الأشخاص الذين لعبوا دوراً كبيراً في إتمامه وتعيين حدوده ومداه.
وأشار السفير حمادة في دراسته تلك الى أن الفكرة الأولى لعقد مؤتمر باندونغ تعود الى إندونيسيا والى رئيس وزارئها الدكتور ساسترو أميدجوجو بالذات. أما الغرض من هذا المؤتمر فكان تنظيم تجمع كبير لمقاومة الاستعمار.
وفي 17 آب/ أغسطس من العام 1953 وجه سوكارنو نداءه “لا يمكن أن يستقر السلام ما دام الإستعمار قائماً”، وبعد أسبوع ردد أميدجوجو قائلاً “لا يمكن أن تكون هناك أمة سعيدة، ما دامت هناك أمم مستعمرة”، أي أن السبب الذي دعاهما الى الدعوة لمثل هذا المؤتمر كان نوع آخر وهو أن رئيس الوزارة الإندونيسية أراد الخروج من مأزق كان فيه على الصعيد الداخلي، إذ كان لا يتمتع في البرلمان إلا باقلية ضئيلة. فالحزب الوطني الذي يستند اليه يزداد إستياءاً من تفاقم الوضع الإقتصادي، والمعارضة المؤلفة من المسلمين والإشتراكيين والشيوعيين تشتد حملتها. وكان أميدجوجو يتوقع وسط هذه العاصفة، أن يفقد ثقة البرلمان بين لحظة وأخرى. فسعى الى إكتشاف وسيلة تبعث الوحدة بين الأحزاب وتؤمن له الإستقرار والبقاء في الحكم. فنشأت فكرة تنظيم مؤتمر دولي تجلس فيه الصين والهند جنباً الى جنب. فيرضي بذلك اليسار ويحد من عنف معارضته، كما يجعل الوطنيين أكثر تحفظاً وحذراً. وبهذه الطريقة يحقق إنقاذ وزارته ويضيف عنصراً من عناصر الدعاية لدى ناخبيه.
وتم تحديد أول تعريف لمفهوم سياسة عدم الانحياز في مؤتمر بلغراد عام 1961، إذ قرر أن الدولة التي تؤمن بتلك السياسة يجب أن تنهج سياسة مستقلة قائمة على تعايش الدول ذات النظم السياسية والإجتماعية المختلفة، وألا تنحاز، أو تظهر إتجاها يؤيد هذه السياسة وتؤيد حركات الإستقلال القومي شرط ألا تكون عضواً في حلف عسكري جماعي أو طرفا في إتفاقية ثنائية مع دولة كبرى أو تسمح لدولة أجنبية بإقامة قواعد عسكرية في إقليمها بمحض إرادتها. وقد تبلورت أهداف الحركة في القمم التي عقدت تباعا.
وما بين 1954 و2020 ناشد البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي في عظته في اليوم السادس من زمن العنصرة أي يوم الأحد الواقع فيه 5 تموز 2020 رئيس الجمهورية العماد ميشال عون “العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ، وطلب من الدولِ الصديقةِ الإسراعَ إلى نجدة لبنان كما كانت تفعل كلما تعرّضَ لخطر. وتوجّه إلى منظَّمة الأمم المتّحدة للعمل على إعادةِ تثبيتِ استقلالِ لبنان ووحدتِه، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلانِ حياده”.
ووجد في حياد لبنان “ضمانُ لوِحدته ولتموضعه التاريخيّ في هذه المرحلةِ المليئةِ بالتغييراتِ الجغرافيّةِ والدستوريّة، قوّته وضمانة دوره في إستقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسّط”.
الحلقة الثانية يوم الثلاثاء المقبل
مواضيع ذات صلة: