دخل لبنان أمس مرحلة جديدة من الأزمة الاجتماعية المتنامية تمثلت بتقاتل المواطنين في السوبرماركت على كيس حليب مدعوم، وهو مشهد لم يألفه اللبنانيون من قبل، سوى في أخبار الدول المتخلفة أو قبائل المجاهل التي يبدو أن لبنان لن يتأخر في الانضمام إليها.
في لبنان، الدولار تجاوز سقف العشرة آلاف ليرة، وبلغ الحد الأدنى للأجور أدنى مستوياته فتحول الى 68 دولارا، الطرقات مزنرة بنيران الاطارات المشتعلة إحتجاجا على الأوضاع المعيشية وأوصال البلاد مقطّعة، المستشفيات رفعت تسعيرتها على سعر المنصة (3900 ليرة للدولار الواحد) من دون أن تنتظر قرارا أو موافقة من الدولة، لقاحات كورونا دخلت السوق السوداء، الأدوية شبه مفقودة، الكهرباء تواجه تقنينا قاسيا وعشوائيا لا يتعدى خمس ساعات في اليوم، والمحروقات الى النفاد، والمصارف تضاعف من حصار أموال المودعين، طلاب لبنان في الخارج “يشحدون الملح” فيما قرار الدولار الطالبي الذي أقره مجلس النواب لا يجد طريقه نحو التنفيذ، الغلاء يكوي الجيوب ويلتهم الرواتب ويفترس المدخرات، والفقر يذل المواطنين الذين تحولوا الى لاجئين في وطنهم ينتظرون كرتونة “الاعاشة” وإلا فالجوع يطرق الأبواب، كل ذلك والسلطة السياسية تغط في سُبات عميق ولا حياة لمن تنادي.
ما يشهده لبنان غير عقلاني ولا يمت الى المنطق بصلة، ومن حق اللبنانيين أن يجدوا تفسيرا له، أو أجوبة على تساؤلاتهم المعطوفة على الخوف من مستقبل مجهول لجهة: هل إتُخذ القرار بتسريع الانهيار وبالتالي الوصول الى القعر وتفكيك لبنان كدولة وإعادة بنائه على أسسس جديدة؟، وهل وجدت القوى الكبرى أن إعادة البناء أقل كلفة من عملية ترميم ما تبقى من دولة؟، وهل ما يحصل سيكون على البارد تحت شعار الثورة الشعبية على الأوضاع الاجتماعية، أم أنه سيكون ملتهبا بأجندات أمنية لا أحد يعلم الى أين قد تأخذ لبنان بعد النماذج التي شهدتها دول في المنطقة؟، وهل الحكومة يمكن أن تبصر النور، أم أن تصريف الأعمال لحكومة حسان دياب سيطول، علما أن بعض المصادر سبق وإستغربت كيف تم تهريب حكومة دياب لتتولى الحكم على مدار سبعة أشهر؟..
والأهم من كل ذلك، من يكذب على من؟، وكيف يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي تعب اللبنانيون من الدوران فيها؟، ومن يمتلك القرار، أو الحل والعقد؟، ومتى سيكون الفرج؟..
الحقيقة الثابتة والوحيدة، هي أن هناك غياب عن إدارة البلد، وأن الكل مستقيل من مهامه، وربما الكل يصرف الأعمال من رئيس الجمهورية الذي يستفيد من الوضع القائم لتحقيق حلمه التاريخي بالانقلاب على الطائف، الى الرئيس المكلف الذي لا يكلف نفسه عناء البحث عن مخارج، الى الحكومة المستقيلة من تصريف الأعمال والتي يغط رئيسها ووزراؤها في نوم عميق، الى التيارات السياسية التي تستقوي إما بتوقيع رئاسة الجمهورية أو بالتدويل الآتي من بكركي، أو بتمثيلها الشعبي أو بسلاحها، وتتفتق مواهبها يوميا في إصدار البيانات وتوزيع الاتهامات، فيما شعب لبنان العظيم في مكان آخر، يتسوّل ويسأل عن كرامته المهدورة أمام كيس حليب مدعوم أو كسرة خبز لم يعد يجدها.
كان لافتا جدا ما شهدته الساحة اللبنانية من إعادة خلط أوراق أدت الى تعقيد الأمور بدلا من حلها، ففي الوقت الذي إستشعر فيه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الخطر المحدق بالكيان اللبناني وأراد ملاقاة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله بإعلانه التراجع عن التمسك بـ 18 وزيرا لمصلحة 20 أو 22 لأن “المهم هو إنقاذ البلد”، إشتد الكباش بين الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري، حيث نقلت صحيفة “الأخبار” معلومات أن عون أبلغ الحريري باستعداده للقبول بخمسة وزراء زائدا وزيرا للطاشناق شرط أن يحصل على وزارة الداخلية، لكن الحريري رفض هذا العرض.
وكان سبق ذلك توصيفا من قبل نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم لوضع الحريري في السعودية، فقال في مقابلة مع الميادين: “إذا أضاء الرئيس الحريري أصابعه العشرة للسعودية فلن تقبل به ولن توافق على حكومة فيها حزب الله أو لا”، لافتاً إلى أن “المطلوب سعودياً لا يتحمّله لا الحريري ولا غيره وهو مواجهة حزب الله”.
وقد جاء رد المكتب الاعلامي للحريري هذه المرة في الاتجاهين، الأول متوقع وهو تكذيب ما نقل عن رئيس الجمهورية والتأكيد أنه لم يتلق أي عرض من هذا النوع وبالتالي فإن الهدف من هذه المعلومات هو نقل مسؤولية التعطيل من عون وباسيل الى الحريري..
والثاني مستجد وربما مستغرب خصوصا أنه كسر هدنة كانت قائمة مع حزب الله، حيث قال المكتب الاعلامي: إن الرئيس الحريري، على عكس حزب الله المنتظر دائما قراره من ايران، لا ينتظر رضى اي طرف خارجي لتشكيل الحكومة، لا السعودية ولا غيرها، إنما ينتظر موافقة الرئيس عون على تشكيلة حكومة الاختصاصيين.
لا شك في أن موقف الحريري يؤشر الى قناعتين لديه: الأولى وقوف حزب الله الى جانب عون ومحاولة تحميله مسؤولية التعطيل، والثانية عدم حصوله على أي رضى سعودي، خصوصا في ظل الرسائل السلبية التي تصله تباعا وعدم تمكن ولي عهد أبو ظبي الأمير محمد بن زايد من تأمين زيارة له فضلا عن تأجيل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارته الى الرياض.
أمام هذا الواقع، يبدو أن إنسداد الأفق السياسي يزداد ويتماسك، وأن الشارع بات الملعب الوحيد لتبادل الرسائل، خصوصا أن ما يشهده يدل الى أن جهات قررت تحريكه لأسباب محددة، علما أن الدولار بـ 9700 أو 9900 لا يفرق شيئا عن العشرة آلاف باستثناء البعد النفسي للسعر، فهل يضغط الشارع في تحريك الملف الحكومي؟ أم أن المطلوب منه هذه المرة هو أكبر وأخطر؟!..
مواضيع ذات صلة: