ألا تَبًّا لِحبرٍ.. يبكيك.. رشيد درباس

كما حَشْرَجَ العطر في حلق الليمون الذبيح، حشرج الحبر في حلق القلم، فَنَحَّيْتُ مقالتي عن طرابلس المصابة، لأحدثكم عن ابنها وأخيها وعَلَمِها ورونقها، ووزيرها ونائبها وحديقتها الزاهرة التي تأدَّب اليباس عند حدودها.

ألا لا بارك الله في دموع الحبر إذا ذرفت حزنًا على “جان”، فما اعتْدتُها إلا بستانًا خصيبًا، يُثْري الريشة بألوانه وسجاياه وثمار كرمه.

ألا تَبًّا للخط إذا كان رقيمًا، فأنا لم أعاقره إلا إدمانًا على اكتشاف خزائنه ونشر ملائحها ودُرَرِهَا حتى اتُّهِمْتُ بأني ظِلٌّ خجول لابن عبيد الله.

وردني النبأ، فعدت إلى خزانتي، وأخرجت أكياس المسابح التي أهدانيها، وحاولت أن أتذكر كلامه في مزايا كل واحدة منها، وحدَّقْتُ بحباتها التي كان يُقَرِّبُها لي من النور، ليريني محتوياتها النادرة، فلم أرَ فيها إلا وجهه، يطلُّ عليَّ من عمق الكهرمان، باسمًا، لاذعًا، شاتمًا، ناعمًا، صارمًا، صادقًا ناصحًا وحكيمًا…

جمعت مسابحي تلك التي شكَّها في خيط الوجدان على مدى نصف قرن، فقرأت فيها عناد الضوء، ولسعني ملمسها بالذكريات، فاكتشفتُ كم تَغَيَّرَتْ طباعي من دون أن أنتبه، فلقد اتسع صدري عما كان فيه من ضيق بمن أخالفهم الآراء، وتَرَوَّض غضبي، واحتلت المسامحة في قلبي المساحة الكبرى، وانفتح الأفق على الحكمة والذوق والفطرة السليمة.

الآن ألاحظ كم كان صديقًا مُتَحَيِّزًا حتى التطرف، إذ كان يسير في هوى ما يرى فيه مصلحتي، وكان يحب من أحب، ويصالحني مع من لا أحب، ويعودني على الصفح، ويلقنني آيات القرآن والانجيل ويمرِّن ذاكرتي بخطب علي وأبي بكر، ويدخلني كما في حلقات الذكر، إلى رحاب المتنبي الذي يلحُّ علي في هذه اللحظة الهائلة بيته الرهيب:

وما الموْتُ إلاّ سارِقٌ دَقّ شَخْصُهُ

يَصولُ بلا كَفٍّ ويَسعى بلا رِجْلِ

طلبت مني المرحومة الوالدة في العام 2005، ألا أرشح نفسي للانتخابات ثم استدركت قائلة:” إلا إذا كان لجان عبيد مصلحة في ترشيحك”، فلما أعلمتُه بما قالت، طغت على وجههه ابتسامته المعروفة، وطلب إلي أن أبلغها، أنه إذا قرر خوض المعركة، فإن له مصلحة أكيدة باشتراكي معه، ولكنه يرفض ذلك بحزم لأن هذا يضر بمصلحتي الشخصية.

أنا أزعم الآن أن لي صلات حميمة بمختلف الأطياف اللبنانية، لكنني أجزم أن هذا تم في قمة “جبل تربل” (مقر الرئاسة الصيفي، كما كنت أسميه) وفي بلَّونة، وفي دواوين حديثه حين كان يستحضرني في الغياب،  ويحثني على الكتابة ويدخلني إلى صفحة “النهار” الأولى،  فكنت أخشى أنني أكاد أحتكر اهتمامه، فتثور حفيظة أهله علي، فتبين لي أنه حبَّبني  إليهم كما لو كنتُ واحدًا منهم، كما تبين لي أكثر من ذلك أن هذا هو أسلوبه مع الأصدقاء بلا استثناء.

من يريد أن يتعرف بالعروبة، ما عليه إلا أن يطَّلعَ على صورة مقطعيةٍ من جسده، منذ الرأس الذي امتلأ بمفهومها الحضاري الواسع، حتَّى القدمين اللتين امتلأتا بشوارع طرابلس حيث كان يُعَبِّدُها بالمظاهرات الوطنية مع رفاق له آمنوا أن الهوية القومية جهاز مناعة العرب بوجه التفسخ والطائفية والعنصرية.

دخل إلى عالم السياسة من باب صحافة عشقته حتى راحت تتلوَّى المجلات والجرائد من هجرانه لها، فحجب عنها المقال اليومي وادَّخرها “لفصل المقال”، من غيرِ أن تحسبَ الصحافة والسياسة والصداقة أن فصلَ مقال الحياةِ سيكون هكذا قريبًا.

بِنَا مَنْكَ فَوْقَ الرَّملِ  ما بِكَ في الرَّملِ

وَهَذا الذي يُضْني، كذاك الذي يُبْلى

يقول صديقك أبو الطيب الذي يقيم في هذه اللحظات مهرجانًا فخمًا لاستقبال فخامتك، فلقد فاتنا أن تتبوَّأ سُدَّةً فتبَوَّأتَ لحدا، وفاتك أن تُوَدِّعَنا، وما أخْلَفْتَ من قبلُ وعدا، وذبُل زهر الليمون في مدينتك قبل أن يُعْقَد؛ وما كدنا نحاط عِلْمًا، حتى وارى تراب “عَلْمَا”، عَلَماً تناسقت فيه الألوان حتى تجسدت أرزة جذعها في الأرض وفرعها في السماء….

أيها العاشق الأزلي، يا “قيس لبنى”، وأبا سليمان وهلا وأمل وبدوي وجنى، يا شقيق ايلي وميلان وفؤاد يا رفيق سونيا، هاتفك البشري، أيها الخال والعم والصديق، أيُّها الفرصة الضائعة، إن يدي لتعصاني فلقد جفّ مدادي، وحَرَنَتْ يراعتي، وتَخَثَّرت الحروف كما تَخَثّر الدم في عروقك… فلا السطر يعينني، ولا الورق يتسع لما في نفسي تجاهك، ولا أرى الناس إلا معزِّياً بعضهم بعضاً ففي ذهابك اتحاد الخسارة الشخصية بالخسارة العامة.

كُنتَ في كل مرة أكتبُ فيها مقالاً، تهاتفني بعد ان تمسك بي مُتَلبِّساً باقتباس أفكارك، وتُذَّكرني بالبحتريِّ الذي قال فيه ابن الرومي:

يُغيرُ  لَيْلا على الموتى وَيَسْلبهُمْ

 حُرَّ الكلام بجيشٍ غيرِ ذي لَجَبِ

كم كان يسعدني ذلك إذ كنت أغير عليك حياً، وجهاراً نهاراً، اما الآن فستظل انت تغير علينا حتى نلتقي.

جنازتان سارتا في نفسي، ولم أَسِرْ فيهما: جنازتك .. وجنازة أبي

 

 

 

 

 

 

Post Author: SafirAlChamal