طارق زيادة.. الـمـُتَحفِّظُ، المتَحَفِّز… بقلم: النقيب رشيد درباس

نشر الوزير السابق النقيب رشيد درباس مقالا في صحيفة النهار جاء فيه:

قلت فيه سابقاً إنه كبير أخوة دكاترة، في عائلة كان ربُّها مختبراً للتفاعل بين الدين والدنيا والكدح والأرومة، والموروث والجديد، ولكن التفاعلات كلَّها كانت محكومة بنظام صارم ومواعيد دقيقة، والتزام حازم بالوقت، وكلّها صفات اكتسبها الموظف في مصلحة سكك الحديد ذات العيون الساهرة على سلامة انسياب القطارات في مواعيد لا تحتمل التهاون أو التغافل، فكان قيّماً على مرور العجلات فوق برج رأس النهر، مستمتعاً بخرير المياه الذي يلطف صرير المكابح ومنتشياً بفوح  زهر الليمون وهو يضمِّخ العبور بالعبير.

هذه هي عائلة زيادة، المنتشرة بين الأمصار والأديان، فمنها علماء أجلاء… ومنها رهبان وقسيسون.

من محطة بيتهم القديم في باب الرمل، انطلقت القطارات في اتجاهات مختلفة، بعد أن زودها ناظر المحطة (محمد زيادة) بوقود من الإصرار والدقة والاستقامة والاعتماد على النفس…

لم نكن في بدايات ممارساتنا المهنية، نسأل عن صفات القاضي، بل كنا نقرأها حية في كل حركة من رعيل علَّمنا  كيف نَفُكُّ عُقَدَ حروف القانون لنطبقها من غير عقد، وعلَّمنا أيضاً أن رجل القانون الحقيقي هو  الذي يسكنه الروح برحابته لا ذلك الذي يجتهد ليرسف في قيد النص، وينتف عن القلم ريش الجناح، وَرَوَّضَنا “طارق” على أن القاضي ملتزم بموجب التحفظ، فوالله لم أرَ من هو أكثر منه تحفظاً وتحفزاً في الوقت عينه، إذ جعل بينه وبين المتقاضين خطَّاً من الرصانة واللباقة والحزم، كما جعل من الحق صهوة متحفزة، تجبه الخلل وتصدُّ الزلل.

رَوَى لي، منذ وقت قريب، بمناسبة إحالة بعض القضاة على التأديب بعد تحقيقات قامت بها جهات أمنية، أنه عندما  تولَّى رئاسة التفتيش القضائي، سأله وزير العدل إن كان بحاجة لضابط أمن لمساعدته في أعماله، فأجابه بصرامته المحببة:

“يا معالي الوزير” أنا لا أُدْخِلُ أحداً إلى كرمي” فلم أشهد بموقفه هذا، كرامة، كتحصين الكرم وصحوة النواطير.

“قلت فيه كذلك: “إنه طارق بن زياد، أو ابن زيادة، فقد تكون التاء المربوطة زائدة بنقطتيها، بل  نجمتيها اللامعتين، كأنهما قلب ينبض.. وعين تبصُّ، فكانت سفينتَه لعبور المضيق، في حين أحرق بن زياد مراكبه وقال:

“..البحر من ورائكم..”

لقد قهر طارق بن زياد الجبل، فأطلق عليه اسمه علامة إذعان، فيما قام المجتهد طارق بن زيادة بحفره بإبرة دؤوبة، من سهر الليالي وسعة الاطلاع والثقافة، ولسان حاله يقول: الجهل والفقرمن ورائكم، والمستقبل من أمامكم.

نال شهادة الحقوق من جامعة القديس يوسف، بعد أن تلقى علومه في مدراس المعارف الرسمية على أيدي معلمين تنطبق عليهم صفة الرسل؛ أنهى تدرجه في المحاماة في مكتب المرحوم النقيب عدنان جسر، وكان في فترة ما، المتدرج الوحيد في نقابتنا، فلما أنشىء معهد الدروس القضائية كان مع أقران له، متع الله من بقي منهم بالصحة، الدفعة الأولى، بل الومضة البكر التي أصبحت قبلة كثير من المتخرجين؛ عُيِّنَ قاضياً منفرداً  مدنياً في طرابلس، فلما انتخب المرحوم سليمان فرنجية رئيسأ للجمهورية، صدرت تشكيلات قضائية، نُقِلَ بموجبها قاضياً منفرداً إلى زغرتا، ناظراً، بالأمور المدنية والجزائية والتنفيذ والعجلة، فاستغرب الرئيس طارق زيادة الأمر، وتوجس منه، فطلب موعداً من الرئيس، فلما قابله بادره الرئيس فرنجية قائلاً: لا تعترض، فزغرتا تستحق قاضياً مثلك، ولقد ظل يردد بعد ذلك، أن أحداً لم يجرؤ في زغرتا على مراجعته بأية قضية من خارج الأصول طوال توليه منصبه هناك.

لقد بقي يحِنُّ لمهنته الأولى، من عمق تفانيه في مهنته الثانية وانتخبه النواب بأكثرية كبيرة، فسهر على الدستور ما استطاع، ومارس عطفه على الأجيال حتى آخر الرمق.

قبل أَحَدَيْن، وَبُعَيْدَ إذاعة حديثي الاسبوعي في صوت كل لبنان بعنوان “ناقوس في أحد” لمعت شاشة هاتفي برقمه، فلما بادرت بالقول:

” أهلاً يا أبا محمد..جائني الجواب، بل أنا محمد ، عليك ألا تتفاجأ أو تحزن، فالوالد في مرحلة متقدمة من المرض، وهو يريد أن يكلمك، فإذا بي أسمع صوتاً عميقاً من التاريخ العميق يقول لي شكراً أخي رشيد على إشادتك  بي هذا الصباح مع زملاء لي” فلم أجب، بل  تولَّى الدمع عن قلبي الجواب.

لقد تخَّلى طارق عن موجب التحفظ، وامتطى تَحَفُّزَه… ورحل

Post Author: SafirAlChamal