كثيرا ما عُرف لبنان ببلد العجائب الدينية، من تماثيل السيدة العذراء التي ترشح زيتا أو دما، مرورا بمزار مار شربل الذي يؤكد لبنانيون من طوائف مختلفة أنهم طلبوا الشفاء من أمراض ميؤوس منها وكان لهم ما أرادوا، وصولا الى بعض رجال الدين من أصحاب ″الكرامات″ الذين يعالجون المرضى ويفكون السحر بآيات القرآن الكريم.
اليوم أضيف الى لبنان ميزة أخرى، وهي العجائب السياسية التي سبقت العجائب الدينية بأشواط، وهي ناتجة عن حالة إنفصام بات يعيشها كثير من التيارات السياسية التي تفعل الشيء ونقيضه، وترفض أمرا وتمارسه، وتقول ما لا تفعل، وتعلن عكس ما تضمر، حتى بات المواطن اللبناني ″متل الأطرش بالزفة″ لا يفقه ما يدور من حوله بفعل التناقضات الكثيرة التي تسيطر على الحياة السياسية.
كثيرة هي حالات الانفصام السياسي في لبنان التي تكاد تصيب اللبنانيين بالجنون، فالتيار الوطني الحر يملك حصة الأسد في الحكومة ويحرض عليها وينتقد آدائها، والوزير جبران باسيل يدعو مناصريه للتظاهر ضد السلطة التي يتربع عمه العماد ميشال عون على رأسها، ويضع يده على تعيينات الطوائف المسيحية، ويسعى الى إلغاء تيارات وشخصيات مسيحية وازنة في الحياة السياسية، ثم ينادي باستعادة حقوق المسيحيين في لبنان.
القوات اللبنانية ترفع الصوت ضد ممارسات الحكومة، وتنتقد الآداء العام، وتتمسك بمنصب نائب رئيس مجلس الوزراء وبوزارات الصحة، الشؤون الاجتماعية والاعلام، وهي في العلن متحالفة في التيار الوطني الحر، بينما يشهد الشارع المسيحي تصفية حسابات من العيار الثقيل بين الطرفين، فيذهب التيار الى التحالف مع المستقبل، وتغازل القوات تيار المردة ألد خصوم التيار.
تيار المستقبل يصف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بحكومة الانقلاب كونها تشكلت بالشراكة مع حزب الله، ثم يشارك الحزب في حكومتين متتاليتين، ويعقد معه 43 جلسة حوار، ويغطي اليوم عن قصد أو عن غير قصد كثيرا من ممارسات الحزب التي كان يعتبرها من ″الكبائر″.
والرئيس سعد الحريري يشن هجوما عنيفا مع نوابه على شعار ″النأي بالنفس″ الذي إبتكره ميقاتي، ثم يعتمده في حكومته كخارطة طريق ويعتبره حكمة وطنية تحمي البلد وأمنه وإستقراره، وهو يطرح نفسه كحامي حمى السنة في لبنان، ثم يفرط بعطلتهم يوم الجمعة لمصلحة العطلة يوم السبت، فضلا عن تنازلاته السياسية التي أضعفت الموقع السني الأول في لبنان.
ويرفض الحريري قيام حزب الله بتحرير جرود عرسال، ثم يدعم مفاوضاته مع جبهة النصرة ويوفر لها كل التسهيلات وصولا الى إتمامها وإسترجاع الحزب لكل أسراه.
وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق يعلن جهوزية وزارته لاجراء الانتخابات الفرعية، ويعلن للاعلام في كل مرة أنه سيطرح بندها على طاولة مجلس الوزراء، ثم يخرج من الجلسة خالي الوفاض لسبع جلسات متتالية، وهو ينتقد مع الحريري وكتلة المستقبل الرئيس نبيه بري على إيقافه مخصصات فرع المعلومات منذ أيار الماضي عبر وزارة المالية، ثم يوفده الحريري ممثلا له الى مهرجان الذكرى 39 لتغييب الامام موسى الصدر.
أما حزب الله فهو يقاتل “داعش” في سوريا منذ خمس سنوات، ويفاوضه في جرود رأس بعلبك والقاع ويؤمن خروج مقاتليه وأهاليهم الى دير الزور، ويستنكر محاصرة الطائرات الأميركية لهم في الصحراء ويطالب بفكه ويحذر من مغبة ذلك، كما أن داعش أعدم العسكريين الشهداء الذين أسرهم، وأبقى على أسير حزب الله الذي إسترجعه بفعل هذه المفاوضات.
هذا غيض من فيض حالات الانفصام لدى التيارات والأحزاب السياسية، أما إنفصام السلطة مجتمعة فحدث عنها ولا حرج، فهي تعتبر أن التفاوض مع داعش لاستعادة العسكريين المخطوفين أحياء يشكل إنتقاصا من السيادة الوطنية ويضر بسمعة لبنان في الخارج، ثم تفاوض داعش لاستعادة رفات العسكريين الشهداء بعد إعدامهم، وتسمح للارهابيين بمغادرة الأراضي اللبنانية بالباصات المكيفة وتعتبر ذلك إنتصارا.
هذه السلطة كانت تعلم أن العسكريين قد إستشهدوا، ورغم ذلك كانت حتى الأمس القريب تعد أهاليهم بالكشف عن مصيرهم وتحريرهم، ما شكل فاجعة كبرى لدى الأهالي الذين عبروا عن نقمتهم على كل السياسيين.
تؤكد السلطة أن الضرائب لن تطال محدودي الدخل، فيجد هؤلاء أنفسهم يرزحون تحت وطأة زيادة الضرائب والرسوم والأسعار على كل السلع، تنادي بحماية المواطنين من جشع التجار، وتعطل هيئة حماية المستهلك، تنادي بالحفاظ على البيئة، ولا تجترح حلولا لأزمة النفايات ومكباتها التي تهدد البحر الأبيض المتوسط برمته وسلامة لبنان من شماله الى جنوبه، تطالب بفتح ملف الأملاك البحرية وأركانها هم أكبر المستفيدين منها، تؤكد على تحسين التغذية بالتيار الكهربائي، والمناطق ترزح تحت وطأة التقنين القاسي والعشوائي، تقول إن المواطن اللبناني يشكل أولوية بالنسبة لها، ثم تنساه ويختلف أركانها على جنس الملائكة.
كل ذلك وأكثر يُفقد اللبنانيين الثقة بالدولة والسلطة السياسية الى حدود الكفر، خصوصا أنها تتحدث عن الديمقراطية وحرية التعبير والاختيار، وتمدد لنفسها لثلاث مرات متتالية، ثم تفصّل قانونا إنتخابيا على قياس أركانها.
ما تقوم به السلطة، يصح فيه الآيتين الكريمتين: ″يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون.. كَبُرَ مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.″.