طرابلس تستقوي بـ”رمضان” على الأزمات.. هكذا تعيش فضائله!.. غسان ريفي

تتألق طرابلس في شهر رمضان المبارك مهما بلغت الأزمات وإشتدت الصعوبات، حيث أن برَكة الشهر الفضيل تستقوي عليها وتعم كل الأرجاء، فتعطي المدينة نكهة مميزة تنفرد بها عن سائر المدن اللبنانية وتشكل من خلالها عامل جذب لكل المواطنين من كل الطوائف والطبقات والمناطق.

منذ الليلة الأولى من الشهر الكريم يصدح صوت المسحراتي مخترقا سكون ليالي رمضان بالمدائح النبوية والابتهالات على وقع قرع طبلته لايقاظ المواطنين على السحور، قبل أن يتحول بعد العشر الأوائل الى “الوداع” بهدف توديع الشهر عبر فرق تجول على المنازل يقرع أفرادها الطبول والصنوج على وقع الابتهالات الدينية والمدائح النبوية.

هو مشهد يتكرر في كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك في طرابلس التي ما تزال تحرص على أن تعيش تفاصيل الشهر الفضيل بطقوسه الدينية وعاداته وتقاليده وروحانياته وتراثه ونفحاته الايمانية، حيث تزدان شوارع ومساجد المدينة بالانارة الملونة التي تُظهر جمالية عمارتها وعقودها الحجرية الأثرية، ويتخصص كل مسجد في طرابلس بنشاط ديني رمضاني يحتضنه منذ عهود طويلة وما يزال يحافظ عليه.

الأثر الشريف

الى الجامع المنصوري الكبير وهو أكبر مساجد طرابلس وأقدمها يتقاطر المسلمون في يوم الجمعة الأخير من رمضان، من طرابلس والمناطق اللبنانية والدول المجاورة في بعض الأحيان للتبرك بالأثر الشريف، وهو عبارة عن شعرة من لحية الرسول محمد، أهداها السلطان عبد الحميد الثاني الى المدينة لمناسبة إعادة تأهيل مسجد التفاحي في الزاهرية، والذي أطلق عليه في ما بعد إسم “الحميدي” تيمنا باسم السلطان الذي أرسل الأثر الشريف على متن فرقاطة عسكرية الى المدينة التي عمت فيها الاحتفالات وأقيمت فيها الموالد، لكن علماء ووجهاء المدينة خافوا على الأثر الشريف من السرقة لأن الجامع الحميدي كان خارج أسوار المدينة، فارتأوا أن يضعوه في الجامع المنصوري الكبير حيث يصلي الوالي وأعيان ووجهاء طرابلس، فتم تخصيص غرفة جانبيه له، عرفت باسم غرفة الأثر الشريف، ويقرأ فيها القرآن بشكل مستمر ولا تزال حتى يومنا هذا، حيث يُخرج مفتي طرابلس بالتعاون مع عدد من المشايخ في كل عام عند صلاة فجر وعصر يوم الجمعة الأخير من رمضان ويتبرك به المؤمنون على وقع الابتهالات والمدائح التي يقدمها المنشدون.

ختم البخاري

وفي جامع الأمير سيف الدين طينال (وهو ثاني مساجد المدينة من الناحية التاريخية والأثرية) يجتمع أبناء طرابلس في حلقة ذكر إبتهاجا بختم صحيح البخاري الذي يقرأه المؤمنون إعتبارا من منتصف شهر رجب، ويختتم في اليوم الجمعة الأخير من رمضان، حيث تتلى السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة وأركان الاسلام، وتتنافس خلاله فرق الانشاد الطرابلسية على تقديم أجمل وأبهى المدائح النبوية، وتنفرد طرابلس في إحياء هذه الشعيرة بين كل المدن العربية.

ختم القرآن

وفي جامع القرطاوية الأثري المجاور للجامع المنصوري الكبير، يقرأ المصلون في كل ليلة جزءً من القرآن الكريم في 20 ركعة من التراويح، وفي الليلة الأخيرة يحتفل الجميع بختم القرآن حيث تقام حلقة ذكر بالمناسبة، وتخرج بعدها النوبات الصوفية وتجول في الشوارع إبتهاجا بحلول عيد الفطر السعيد، وهي كانت خرجت قبل أيام إحتفالا باستقبال شهر الخير والبركات.

وتتناوب سائر مساجد طرابلس يوميا خلال الشهر الفضيل عقب صلاة التراويح على إقامة الموالد، وحلقات تجويد القرآن والتي تستمر حتى صلاة الفجر، إضافة الى إحياء شعيرة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.

مدفع رمضان

بالرغم من وجود المدفع الأثري في قلعة طرابلس والذي يطل بشكل بانورامي على كل أرجاء المدينة، كان الجيش اللبناني يضرب مدفع الافطار والسحور يوميا إحياء لهذا التقليد الذي يغب طيلة السنوات الماضية، لكن هذه السنة يبدو أنه تم غض الطرف عن ضرب المدفع لأسباب مجهولة.

يوميات رمضانية

ينقسم يوم طرابلس في رمضان الى أربعة أقسام، لكل قسم منه نكهته التي تحرص المدينة عليها بالرغم من الأزمات المعيشية والاجتماعية، حفاظا على تراثها الجميل.

منذ الصباح تنشغل المناطق الشعبية في تحضير العصائر من الخرنوب والسوس والليمونادة، وقمر الدين، والتوت، والتي تعرض للبيع في أماكن مختلفة خلال فترات بعد الظهر، إضافة الى الحلويات التي تنشط صناعتها بشهر رمضان مثل كربوج حلب، ورد الشام، المهلبية، والعوامة وأصابع زيب والقطايف والمشبك، والتي تعرض في الشوارع وعلى البسطات التي تغض بلدية طرابلس الطرف عنها وعن مخالفاتها خلال الشهر الفضيل إفساحا في المجال أمام أصحابها لتأمين لقمة عيشهم، فيما تعج الأسواق القديمة بأبناء المدينة لشراء مستلزمات الإفطار من خضار ولحوم وحبوب حيث يكون الكتف على الكتف على وقع الابتهالات التي تصدر عن مكبرات المساجد لا سيما قبل صلاتيّ الظهر والعصر واللتين يحرص كثير من أبناء طرابلس وزوارها على تأديتهما في المساجد الأثرية المنتشرة في الأسواق والقريبة منها لا سيما المنصوري الكبير والقرطاوية وطينال والتوبة ومحمود بك في التبانة.

قبل آذان المغرب تبدأ حالة من الهستيريا في الشوارع حيث يكسر السائقون كل قواعد السير وكل الأنظمة في سباق للوصول الى المنازل لأخذ قسط من الراحة والاستعداد لموعد الإفطار، وشيئا فشيئا تفرغ المدينة من أهلها، وتأخذ أحياؤها إجازة من زحمة الناس، وصولا الى الأذان الذي يتردد أصداءه في شوارع خالية تماما.

بعد فترة الافطار، يتسابق المواطنون الى المساجد لآداء صلاة العشاء وإقامة سنة التراويح التي يتخللها أذكار وإبتهالات وأدعية ومدائح نبوية، فيما تشهد الأسواق حركة تبدأ خجولة مع بداية الشهر لتصل بعد ذلك الى الذروة التي تتطلب تدخلا من قوى الأمن الداخلي لتنظيم حركة السير في المدينة مع بداية العشر الأخير من رمضان.

بعد ذلك، تفتح المقاهي الطرابلسية أبوابها أمام روادها الذين إما أن يختاروا الحداثة في مناطق الضم والفرز وطريق الميناء، أو أن يختاروا التراث فيقصدون المقاهي الشعبية أمثال قهوة موسى في باب الرمل وفهيم في ساحة التل، ومقهى التل العالي، ومقهى سوق حراج، إضافة الى الجلسات التي تعقد في الأحياء الضيقة، فيما الأفران القديمة تنشط في تحضير الكعكة الطرابلسية التي تضرب صيتا واسعا ليس في طرابلس فحسب بل في كل الأقضية الشمالية والمناطق اللبنانية، وتستمر المدينة بقسميها الحديث والتراثي كخلية نحل رمضانية الى أن يحين وصول المسحراتي الذي يعطي إشارة مغادرة رواد المقاهي الى منازلهم إستعدادا للسحور ومن ثم آداء صلاة الفجر.

يقول الصحافي الراحل الأستاذ عبد القادر الأسمر في كتابه “رمضان في طرابلس ذكريات ومشاهد”: “إن رمضان في طرابلس ليس مجرد صوم لثلاثين يوما فحسب، وإنما هو حالة جديدة بكل مستوياتها طوال 24 ساعة في اليوم، ولعل مدينة طرابلس هي إحدى أبرز المدن العربية والاسلامية التي تعيش رمضان في نقلة نوعية تتجدد معالمها عاما إثر عام، مع الحفاظ على الموروثات والاستمساك بمقوماتها والتشبث بمقاصد هذا الشهر الكريم.. إنه لحدث عظيم يترقبه الطرابلسيون بعد غياب أحد عشر شهرا، قلما أن ينجح أي إنقلاب أو نظام جديد مهما كانت مميزاته في أن يلقى القبول الحسن كما يفعله رمضان”.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal