اللعبة الديموقراطية والأصوات المتطايرة!… شفيق مَلِك

أساس نهضة الدول القديمة والحديثة في العالم كله، غنية كانت أم فقيرة في مواردها الطبيعية، هو بممارسة قيم الاستقامة قولاً وفعلاً في السياسة وكذلك في العمل المؤسساتي الشفاف في مفاصل الدولة.

يواكب هذان العاملان الأساسيين السعي الدؤوب للابتعاد الكلي عن شِرك الفساد في شتى صوره، من كلا الطرفين الدولة والمجتمع المدني. من ثوابت هذه القاعدة الذهبية تنطلق الأمم لتواكب الحضارات وتزدهر في كل المجالات الصناعية والتجارية مروراً بإنعاش القطاع الصحي والتعليمي والثقافي بين الفئات الشبابية. حينها تتكامل عناصر النجاح جميعها لدى الدول المعنية، ويصبح مؤشر النمو الاقتصادي مقبولاً وفعالاً. هذا ما نأمل به وننشده دوماً من المسؤولين السياسيين في لبنان ونخص بالذكر نواب الأمة، على أن يندرج على طبقات المجتمع اللبناني الذي أصابه الترهل منذ فترة طويلة.

ليس العكس صحيحاً، فالنواب هم نواة العمل السياسي الرئيسي وقادتها في حمل الشعلة المضاءة بدروب التغيير والإصلاح في مكامن الدولة ومؤسساتها. ليعملوا جاهدين بما جاهروا به قولاً في برامجهم السياسية المعلنة يوم أوكلوا من الشعب مباشرة، أي منذ يوم انتخابهم وقد مضى، أكثر من عام، على رياح التغيير التي وُعد بها الشعب اللبناني في شهر أيار 2022. أي تغيير هذا وكأنه اليوم ليس إلا امتداداً لمسيرة الست سنوات الراحلة؟ لذا يجب في هذه المرحلة بالذات إحداث ثورة فكرية جديدة في مجتمعاتنا السياسية، بعد الركود الفكري الذي واكب حقبة ما بين ثورة أو انتفاضة 17 تشرين، وفترة الجمود السياسي والانحدار الفكري الذي تزامن مع انتخاب رئيس للبلاد. علَّنا نستشف من وحي الجلسة الأخيرة دروساً وعبراً، قبل تحديد موعد الجلسة المقبلة، ومتى يحدد هذا الموعد؟

على عكس الجلسات السابقة جميعها، كان حضور النواب هذه المرة مكتملاً وهي خطوة إيجابية تدلُّ على التزام وطني. أهم النقاط التي برزت فيها هي:

– نائب لبناني، لا أجزم جهة انتمائه السياسي سوى أنه غرَّد بعيداً عن سربه، وأسقط ورقة تحمل اسم “جهاد العرب”، بذلك ألغى صوته بإرادته قبل أن تصل ورقته صندوقة الاقتراع. أهذا هو العمل الديمقراطي أم حقه السياسي؟ في حين أنَّ لبنان بأسره يصارع شغوراً أو فراغاً في سدة الرئاسة.

– نائب آخر أسقط “ورقة بيضاء” تحمل في طياتها رسائل عدة ومشفَّرة، موجهة لمختلف الجهات السياسية، تشير إلى أنه ليس مع أي من الفريقين وأنه على الحياد فأطلق سهامه إلى كتلته النيابية، معلناً بذلك “قرار التصويت لي”.

– ستة نواب، انتخبوا الوزير السابق زياد بارود في حين أن هذا الاخير طلب صراحة عدم التصويت له، فلماذا هدر الأصوات؟

– تجمُّع من كتلٍ أخرى صوَّتوا بـ 7 أو 8 أصوات بورقة تحمل اسم “لبنان الجديد”. اعتبرت أصواتاً سليمة كسالفاتها في الجلسات السابقة في حين يعتبرها قانون نظام المجلس النيابي الداخلي الفصل الثالث المادة 11 و12 منه أصواتاً لاغية. بالمحصِّلة إن كانت سليمة أو لاغية لا قيمة لها في مجرى المعركة الانتخابية.

– ورقة جوزيف عون، قائد الجيش اللبناني الذي نكنُّ له كل الاحترام في أدائه الوطني على الساحة اللبنانية. لا أدري لماذا أقْحَم النائب الشمالي اسم قائد الجيش في أوجِّ هذه المعركة الرئاسية. ما هو المراد من ذلك الآن سوى “هدر للصوت”، علماً أن انتخاب قائد الجيش يحتاج لتعديل دستوري وإجراءات قانونية وتوافق سياسي برلماني. أم أن هذه الممارسة تعكس اللعبة الديمقراطية والحرية السياسية في لبنان؟

– بالرغم من سرية الاقتراع، كُشف عن ودائع أو أحصنة طروادة لنواب من كتل مختلفة. وهذا هو الفساد السياسي بعينه.

-أما الصوت الضائع، فهل حَرم فريق سياسي من وهج بلوغ رقم الـ 60. سيناريوهات عدة يمكن تبنيها ولن تؤثر في مجرى المعركة الانتخابية، جلُّها أن المجلس النيابي، برئيسه وأعضائه، كانوا يديرون أهم عمل سياسي ديمقراطي في لبنان تحت أعين ورقابة المجتمع السياسي الدولي، فجاء لبنان خاسراً نتيجة ما حدث.

نحن نعيش مرحلة دقيقة ومفصلية، وعليه لا نمتلك ترف المناورات السياسية التي تتيحها اللعبة الديمقراطية. لبنان أمام خطر كياني والأداء السياسي الرمادي يفاقم أزمته. من هنا فإن تشتيت الأصوات الذي شاهدناه وتطايرها يصبُّ في خانة استمرار المأزق، وتالياً هو جزء من الفساد القائم.

ختاماً أسئلة تطرح في ضوء الجلسة النيابية الأخيرة: جبران باسيل، هل كان يريد فعلاً أن يصل جهاد أزعور إلى سدة الرئاسة؟ مصادر متقاطعة تؤكد العكس. هل ما بعد الجلسة كما قبلها وهل ستستمر التقاطعات؟ جزء من التصاريح يوحي بأننا سنكون أمام توجهات جديدة. سؤال أخير، لماذا يصرّ الرماديون من النواب على أن لا يفصحوا عن مرشحهم الرئاسي إلاّ في الدورة الثانية بدلاً من الأولى؟ علماً أن الدورة الثانية عرضة لتطيير النصاب.

هكذا مُنعنا مرة أخرى من لَبْننة انتخاب الرئيس وبات لبنان منتظراً ما هو آتٍ من الخارج. في هذا السياق، يدعو الواجب الوطني جميع النواب إلى الكفِّ عن هدرِ أصواتهم فليستفيقوا ويعلموا بأن المعركة التي انطوت لم تفرز منتصراً، بل كان لبنان في الصدارة الخاسر الأكبر. ليحيا لبنان حراً سيداً مستقلاً

الكاتب: المهندس شفيق مَلِك


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal