لبنان إلى أين سياسيا واقتصاديا في مطلع العام ٢٠٢٣؟ (الجزء الثالث والعشرون).. الباحث الدكتور نبيـل سـرور: لبنان في حالة سقوط مدوّي على كل المستويات السياسية والإقتصادية والقضائية..

تمهـيد: 

كنا قد بدأنا في الأجزاء السابقة محاولة إستشراف آراء وتوقًعات بعض النُخب السياسية والإقتصادية والأكاديمية والإعلامية والحقوقية والفكرية حول مستقبل الأوضاع في لبنان، والتطورارت التي قد يحملها العام ٢٠٢٣ على كل الصعد. 

نستكمل اليوم رحلتنا في محاولة سبر هذه الآفاق في لبنان في مطلع العام ٢٠٢٣، ونسافر جنوباً الى قرية “عيتا الشعب الجنوبية”، وهي القرية المشهورة جداً بإحدى اهمّ وديانها التي دخلت التاريخ، الا وهي “خلّة وردة”، التي كانت مسرحاً لعملية بطولية ادّت الى أسر عدد من الجنود الإسرائيلين، وهو الحادث الذي اخذته دولة الكيان الغاصب ذريعة لشنّ حرب مُدمّرة على لبنان في تموز ٢٠٠٦. وبما انني إرتبطت بعلاقات وطيدة مع اصدقاء كُثر من هذه القرية الجنوبية الحدودية الصامدة والمقاومة منذ زمنٍ طويل، والتي زرتها عدّة مرات وكان لي في منازلها المضيافة ومع اهلها الطيبين وشتول التبغ فيها الكثير من القصص والذكريات الجميلة، ولذلك فقد وجدت ان من واجب الوفاء للتضحيات الجسام لأهلها وشبابها ان أعرّج قليلاً على فصول مجدها وعطائها غير المحدود لأجل لبنان، وأن اقوم بالإشارة الى علاقاتي الوطيدة مع سكّانها وترابها واشجارها ،لأنها اضحت رمزاً من رموز العزّ والأباء ودحر قوى الظلم والعدوان والإستبداد ومقارعة الإحتلال وتمريغ انفه. 

ولذلك عرّجت وذكرت البعض من صفحات هذا التاريخ المُشرق عند كتابة هذه المُقدمة القصيرة الت اوجز فيها سيرة احد ابنائها الطيبين وهو الأكاديمي، الكاتب والباحث الدكتور نبيل سرور. فهو صديق شخصي لي منذ اكثر من ٢٢ سنة، وصديق الملتقى وأحد مؤسسيه وداعميه منذ تاريخ إنطلاقته. والدكتور سـرور هو استاذ جامعي وباحث في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، وخاصة في ملف الصين و العلاقات الصينية العربية، كما انه مُتابع لتطوّر الدور الصيني عالمياً، والتحدّيات التي تواجهه خاصة فيما يتعلّق بالعلاقات المتوترة بين الصين والولايات المتحدة الاميركية ، التي تُعتبر من اهم مجالات ابحاثه وإهتماماته ، وهو حالياً ومنذ فترة قصيرة مفوّض الحكومة لدى وزارة الاقتصاد. فأية سنة ٢٠٢٣ تنتظرنا بحسب رؤيا وتقييم الصديق د.سـرور، وهل ستكون أفضل أو أسوأ من سابقاتها؟ وهل ستتحسّن الظروف المعيشية في وطننا المعذب المقهور؟؟ أم أننا ذاهبون الى الأسوأ لا سمح الله وهذا ما تشير اليه معطيات واحداث الساعات والأيام الأخيرة التي كانت حافلة بالأحداث السياسية والإقتصادية والقضائية، التي احدثت ما يمكن ان نسمّيه بالزلزال او بالإنقلاب القضائي المُدوّي الذي سيغيّر بشكلٍ كبير مسارات التحقيقات المُتعلقة بإنفجار مرفأ بيروت، لا بل ان تتبّع مسار الأمور يُشير اننا نغرق اكثر واكثر في وحول الإنهيار الكبير وفي تفكّك كل مؤسسات وإدارات الدولة، واننا نقترب بسرعة من الإنفجار الكبير الذي يتوقّع حدوثه معظم المُحللين والمُتابعين لمجريات الأحداث في لبنان…

*د . طلال حمـّود ، منسق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود*

 *سـرور* : 

*جوابا على السؤال المتعلق بأي مستقبل للبنان في السنة القادمة ٢٠٢٣* ..

▪️طبعا بعد شكر د. طلال حمود على مبادرته بإستشراف واقع الاقتصاد اللبناني في العام المقبل ٢٠٢٣، وهذا من منطلق حرصه الكبير، وحرصنا جميعا كنُخب مسؤولة، في لحظة حساسة تعيش الهـَمّ والقلق على الوطن ومستقبله ومستقبل اجياله وبنيه ، لا سيما في هذه السنوات الصعبة من تاريخ الوطن الحبيب ..

▪️بداية، في هذا المناح الوطني المتشنج والصعب ، ماذا عسانا نكتب او نحلل ،في ظل ازمة قضائية تضرب مداميك القضاء اللبناني ، وادعاءات متبادلة بين اركان الجسم القضائي ، الذي بدل ان يكون الملاذ الأخير للبنانيين ، فقد اصبح القضاء اللبناني ،ساحة صراع ومنازلة بين القضاة انفسهم ، وذلك على خلفية انفجار المرفأ والخلفيات والاتهامات والادعاءات وكف اليد والقرارات والمذكرات المتناقضة بين القضاة انفسهم..

فرحمة بهذا الوطن المثخن بالجراحات في ظل انقسامات وخلافات، حتى داخل المؤسسة العسكرية ايضا مع الأسف الشديد في ظل خلاف ظهر الى العلن مؤخرا ،بين وزير الدفاع وقائد الجيش…حتى كأن امواج التباينات والخلافات، قد اتت او قد تأتي على كل شيء جميل واحببناه في هذا الوطن الغالي على قلوبنا جميعا …هذا الوطن الذي خسرناه او نكاد نخسره على مذبح خلافاتنا وانقساماتنا وولاءاتنا المتباعدة …

▪️نعيش حاليا في ظل الانقسام الكبير الذي يعيشه الوطن بمختلف فئاته وشرائحه الاجتماعية …القضاء بأركانه ، والدولة باداراتها ومؤسساتها ، الجيش والقوى الأمنية والتحديات التي تواجهها …وشبح الانهيار المخيم فوق رؤوس اللبنانيين ، وهو يبدو انه يقترب برأي الكثير من المراقبين والمتابعين من نقطة الانفجار او الارتطام الكبير…

▪️ وبعد ان استمعتُ وتابعت باستمرار اجابات الأصدقاء والصديقات على صفحة الملتقى ..وهناك الكثير منها لامس قلب الحقيقة في تقييم الواقع والتوقعات ، واستطاع بعضها ان يحدد مكامن الخلل ، كما اساليب وطرق الاصلاح والعلاج …

▪️…وهناك قراءات، مع تقديري لكاتبيها، لم تنفذ الى تشخيص ومكامن وعمق الأزمة الجاثمة بابعادها التاريخية والسياسية العميقة..

▪️بصراحة أقول، أن لبنان، منذ تاريخ الاستقلال في العام ١٩٤٣، عرف ازمات متتالية وصولا الى اندلاع الحرب الاهلية عام ١٩٧٣ والاقتتال الطاىفي والمذهبي ، نتيجة ضعف بنيته السياسية القاىمة على اساس البُعد الطاىفي في عملية انتاج وتقاسم السلطة ..

▪️منافع متبادلة ، وصيغة ملتبسة توارثناها منذ ما سُمي بالاستقلال ، اراد لها الفرنسيون وغيرهم ممن اعترفوا بالاستقلال انذاك، ان تكون بابا مفتوحا لأزمات لا تنتهي في جسَد هذا الكيان الضعيف .. وبالفعل هذا ما عاشه اللبنانيون في مختلف مراحل وجودهم السياسي والمناطقي ..فكانت ازمات متنقلة لا تنتهي ، وتباينات على كل شيء ، حتى ابسط الأمور الوطنية الداخلية ظلت عالقة، ولم يتم التفاهم عليها ، فبقيت جرحا مفتوحا يهدد الوطن واستقراره باستمرار ..

▪️وقد عاش لبنان خلال السنتين الماضيتين،، بعد حادثة انفجار مرفأ بيروت المريعة ، بروز معالم انتفاضة شعبية ملتبسة المعالم واختلف حولها اللبنانيون ، كما هم مختلفون حول كل شيء(….) لكن بالنتيجة خروج الناس الى الطرقات والساحات كان نتيجة ظروف ازمة اقتصادية ومعيشية قاسية وغير معهودة منذ انشاء الكيان اللبناني ..فقد خرج الموجوعون اليائسون من فئات الشعب كلها …كما ان هناك فئات حاولت استغلال الحراك لصالح اهدافها ومآربها الخاصة او خدمة لأجندات طرح حو لها الكثير من علامات الاستفهام !!!.. . 

▪️بالحقيقة ،هذه الأزمة الخطيرة ، لم تكن وليدة ساعتها ، بل نتيجة تراكمات وخلل في سياسات اقتصادية ونقدّية غير سليمة، لم تاخذ بعين الاعتبار واقع لبنان بشكل دقيق ، وانطلقت من مسلمات ورؤى سياسية مبتورة وغير واقعية مع الاسف ..

▪️برأيي ان مواطن الخلل في الاقتصاد اللبناني انطلقت من تقييمات ورؤى خاطئة ، لاسيما في مرحلة ما بعد الطائف ١٩٩٠..اي منذ مجيء الرئيس رفيق الحريري الى لبنان، ورعايته، مع الترويكا ، التي حكمت البلد بعد الطائف، نظام المحاصصات، وتشجيعه لنظام اقتصادي ريعي، ترعاه الطواىف وحيتان المصارف وكل سماسرة السياسة والاقتصاد في وطن المزرعة بكل اسف ! 

 ▪️في مرحلة رفيق الحريري ،تعاطت القوى المتحكمة بالسلطة بمختلف مستوياتها من دون استثناء ، بالقرار السياسي والاداري تجاه الواقع المالي والنقدي كبقرة حلوب ، فراكمت المصارف ارباحا ضخمة ، بينما كان الانفاق العام يتزايد بلا ضوابط ، والدولة المفلسة او على شفير الافلاس، تغرق بديون والتزامات مالية لا طاقة لها على مواجهتها داخليا وخارجيا …

▪️كل هذا الواقع المتدحرج كان يحدث في ظل مكابرة وتغييب للحقائق ، وابراز صورة اقتصادية لاقتصاد وهمي يقوم على فواىد خيالية وعوائد اغرت كل رجال الاعمال لايداع أموالهم بالمصارف او الاكتتاب بسندات الخزينة بدلا عن الاستثمار في مشاريع وخطط منتجة للاقتصاد الوطني.. 

▪️وما يستنج من خلال تقارير الخبراء ، ان واقع الازمة الاقتصادية المالية التي يشهدها لبنان، تأتي ضمن الأزمات الاقتصادية الأسوأ على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر..

▪️لقد هوى إجمالي الناتج المحلي الاسمي من قرابة 52 مليار دولار في 2019 إلى ما يقدر بنحو 23.1 مليار دولار في 2021.وواصل مساره الانهياري الى مستويات ادنى بمؤشرات مالية مقلقة طوال العام ٢٠٢٢..

▪️ وقد أدى استمرار الانكماش الاقتصادي إلى تراجعٍ ملحوظٍ في الدخل المتاح للإنفاق. وانخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 36.5% بين عامي 2019 و2021..

▪️ وأعاد البنك الدولي في يوليو/تموز 2022 تصنيف لبنان ضمن الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل، نزولاً من وضع الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل. 

▪️تجدر الإشارة إلى أن مثل هذا الانكماش القاسي ،يصاحب في العادة الصراعات أو الحروب …وقد نشهده في البلاد ذات الاقتصادات غير المستقرة او المتوترة سياسيا وتشهد توترات في واقعها السياسي والامني….

▪️وقد توقف القطاع المصرفي الذي فَرض بشكل غير رسمي قيوداً صارمة على حركة رأس المال عن تقديم القروض أو اجتذاب الودائع.وهذا ما ادخل القطاع المصرفي بواقع اداري ومالي صعب على مدى ٣ سنوات منذ بدء الأزمة العاصفة بلبنان ( ٢٠٢٠ ، ٢٠٢١ ، ٢٠٢٢.. )، ولكنه يواصل عمله في نظام سداد مُجزَّأ يُميِّز بين الودائع الدولارية الأقدم (قبل أكتوبر/تشرين الأول 2019)، والحد الأدنى للتدفقات الوافدة الجديدة من “الدولارات الجديدة”. 

▪️ويتعرض أصحاب الودائع بالدولار الامريكي القديمة لانخفاض حاد في قيمة ودائعهم من خلال عمليات “الليرنة” والاقتطاعات القسرية الفعلية من الديون “haircuts” (التي تصل إلى 85% على الودائع الدولارية). 

▪️وتُعد أعباء الإجراءات الجارية للضبط المالي وخفض المديونية ذات طبيعة تنازلية للغاية، حيث تؤثر على صغار المودعين ومنشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة بدرجة أكبر. 

▪️ويؤدي تذبذب الاسواق المالية الى اهتزازات وانهيار في اسعار الصرف وتراجع في القيمة الشرائية للعملة الوطنية وفي حال من التضخم ، ما يؤدي بالنتيجة الى وقف الكثير من الانشطة التجارية والصناعية للفئات المتوسطة والمحدودة الدخل وتباطؤ نمو الاقتصاد الوطني الى درجة صفرية او سالبة.. . 

▪️وكان من تداعيات الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الوطني منذ سنوات، وصولا الى السنتين الأخيرتين، انهيار العملة الوطنية ، وسرقة او تبخر اموال المودعين، وانهيار القطاع المصرفي اللبناني ، وتراجع القدرة الشرائية لدى المواطن اللبناني… كما ساهمت سياسات الدعم ،ومن ثم الغاء سياسة الدعم على اسعار المحروقات والغذاء والدواء، وطالت كل الاساسيات الحياة التي تمس معيشة اللبنانيين وقوتهم اليومي بشكل مباشر ..

▪️وما فاقم الازمة الاقتصادية والمعيشية، هو واقع التجاذبات السياسية والسجالات والمناكفات، التي شهدها عهد الرئيس ميشال عون،.وقد تركت هذه الخلافات والانقسامات لبنان، رهين تجاذبات داخلية واقليمية ودولية لا حدود لها ..

▪️ اليوم ..ونحن على مشارف العام الجديد ٢٠٢٣..لا تزال الظروف الداخلية ملبدة ، انقسام عامودي وافقي ..مجلس وزراء يجتمع في ظل غياب رئيس للبلاد ،ومشكوك بصلاحية المجلس القانونية وقرارته ، وكرسي رئاسي فارغ في ظل تكهنات ملتبسة، وتقاذف للتهم لا ينتهي بين مكونات الطبقة السياسية ، مما ينعكس شللا وتخبطا يطال كل الواقع السياسي والمعيشي في البلد ..

▪️اليوم ، ونحن على اعتاب سنة جديدة ..لا خلاص للبنان ولا قيامة الا بمواطنة صحيحة وسليمة ، تنتج طبقة سياسية تحدد سياسات واضحة ، وخارطة طريق محددة في السياسة والأمن والاقتصاد والدفاع ..

▪️على اعتاب عام جديد قادم ، نحن بحاجة الى رئيس جمهورية عليه اجماع وطني … يحمل ويجسد امال وطموحات كل فريق نيابي فيه رجال دولة يؤمنون بالوطن وقضاياه بكل ما للكلمة من معنى ، لا اتباع ومحاسيب عند هذا الزعيم او ذاك ..

▪️نحن بحاجة الى سياسة خارجية تستفيد من كل صداقات لبنان وعلاقاته الخارجية ، ولا تستعدي الا عدوا واحدا هو الكيان الصهيوني ..

▪️ نحتاج على اعتاب هذه السنة القادمة ٢٠٢٣ الى قضاء شفاف فيه قضاة شرفاء نزيهون لا يخافون في احقاق كلمة العدالة او يخشون لومة لائم ..

▪️مع مطلع السنة القادمة ..نحن نحتاج الى قوى عسكرية واجهزة امنية مقتدرة لا بائسة ، همها المواطن وحمايته والدفاع عن امنه وحقوقه وحرياته العامة، كما حماية ممتلكاته وكرامته الوطنية كانسان ..

▪️وختاما .. تبقى الرؤية الاقتصادية هي المنطلق …ويبقى الاقتصاد هو الاساس ، فلا تقدم بلا اقتصاد سليم ورؤية مالية ونقدية سليمة ..فكم نحن بحاجة لرجالات اقتصاد وطنيين ونخب ورواد ورجالات فكر واعلام ينقذون لبنان من ازماته ، وينطلقون باقتصاده وقطاعاته المنتجة في الصناعة والزراعة والسياحة ، وفي قطاع الخدمات، نحو التنوع والازدهار في ظل دولة راعية ، وحكومات مسؤولة ، وطبقة سياسية واعية مؤمنة بهذا الوطن ومستقبله ، وتكون مؤتمنة عليه وعلى مستقبل اجياله الصاعدة.

*د طلال حمود ملتقى-حوار وعطاء بلا حدود-جمعية ودائعنا حقّنا*

ممكنة في الربيع القادم، والتي عادت التطورات الإخيرة التي شهدها تشظي القطاع القضائي لمحوها كلياً ومنع اي امل بحصولها. 

نستكمل اليوم رحلتنا في محاولة سبر هذه الآفاق في لبنان في مطلع العام ٢٠٢٣، ونسافر جنوباً الى قرية “عيتا الشعب الجنوبية”، وهي القرية المشهورة جداً بإحدى اهمّ وديانها التي دخلت التاريخ، الا وهي “خلّة وردة”، التي كانت مسرحاً لعملية بطولية ادّت الى أسر عدد من الجنود الإسرائيلين، وهو الحادث الذي اخذته دولة الكيان الغاصب ذريعة لشنّ حرب مُدمّرة على لبنان في تموز ٢٠٠٦. وبما انني إرتبطت بعلاقات وطيدة مع اصدقاء كُثر من هذه القرية الجنوبية الحدودية الصامدة والمقاومة منذ زمنٍ طويل، والتي زرتها عدّة مرات وكان لي في منازلها المضيافة ومع اهلها الطيبين وشتول التبغ فيها الكثير من القصص والذكريات الجميلة، ولذلك فقد وجدت ان من واجب الوفاء للتضحيات الجسام لأهلها وشبابها ان اُعرّج قليلاً على فصول مجدها وعطائها غير المحدود لأجل لبنان وأن اقوم بالإشارة الى علاقاتي الوطيدة مع سكّانها وترابها واشجارها لأنها اضحت رمزاً من رموز العزّ والأباء ودحر قوى الظلم والعدوان والإستبداد ومقارعة الإحتلال وتمريغ انفه. ولذلك عرّجت وذكرت البعض من صفحات هذا التاريخ المُشرق عند كتابة هذه المُقدمة القصيرة التي اوجز فيها سيرة احد ابنائها الطيبين وهو الأكاديمي، الكاتب والباحث الدكتور نبيل سرور. فهو صديق شخصي لي منذ اكثر من ٢٢ سنة، وصديق الملتقى وأحد مؤسسيه وداعميه منذ تاريخ إنطلاقته. والدكتور سـرور هو استاذ جامعي وباحث في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، وخاصة في ملف الصين و العلاقات الصينية العربية، كما انه مُتابع لتطوّر الدور الصيني عالمياً، والتحدّيات التي تواجهه خاصة فيما يتعلّق بالعلاقات المتوترة بين الصين والولايات المتحدة الاميركية ، التي تُعتبر من اهم مجالات ابحاثه وإهتماماته ، وهو حالياً ومنذ فترة قصيرة مفوّض الحكومة لدى وزارة الاقتصاد. فأية سنة ٢٠٢٣ تنتظرنا بحسب رؤيا وتقييم الصديق د.سـرور، وهل ستكون أفضل أو أسوأ من سابقاتها؟ وهل ستتحسّن الظروف المعيشية في وطننا المعذب المقهور؟؟ أم أننا ذاهبون الى الأسوأ لا سمح الله وهذا ما تشير اليه معطيات واحداث الساعات والأيام الأخيرة التي كانت حافلة بالأحداث السياسية والإقتصادية والقضائية، التي احدثت ما يمكن ان نسمّيه بالزلزال او بالإنقلاب القضائي المُدوّي الذي سيغيّر بشكلٍ كبير مسارات التحقيقات المُتعلقة بإنفجار مرفأ بيروت، لا بل ان تتبّع مسار الأمور يُشير اننا نغرق اكثر واكثر في وحول الإنهيار الكبير وفي تفكّك كل مؤسسات وإدارات الدولة، واننا نقترب بسرعة من الإنفجار الكبير الذي يتوقّع حدوثه معظم المُحللين والمُتابعين لمجريات الأحداث في لبنان.

 *سـرور* : 

إفتتح سرور مداخلة بالقول جواباً انه على الأسئلة المتعلقة بأي مستقبل للبنان في السنة القادمة ٢٠٢٣، اودّ في البداية طبعاً د. طلال حمود على مبادرته بإستشراف واقع السياسة والاقتصاد اللبناني في العام ٢٠٢٣، وهذا من منطلق حرصه الكبير، وحرصنا جميعاً كنُخب مسؤولة، في لحظة حساسة تعيش الهـَمّ والقلق على الوطن ومستقبله ومستقبل اجياله وبنيه، لا سيما في هذه السنوات الصعبة من تاريخ الوطن الحبيب وبداية، في هذا المناح الوطني المُتشنّج والصعب ، ماذا عسانا ان نكتب او نُحلّل، ،في ظل ازمة قضائية تضرب مداميك القضاء اللبناني، وادعاءات مُتبادلة بين اركان الجسم القضائي، الذي بدل ان يكون الملاذ الأخير للبنانيين، اصبح ساحة صراع ومنازلة بين القضاة انفسهم ، وذلك على خلفية انفجار المرفأ والخلفيات والاتهامات والادعاءات وكفّ اليد والقرارات والمذكرات المتناقضة بين القضاة انفسهم..

فرحمة بهذا الوطن المثخن بالجراحات في ظل انقسامات وخلافات، حتى داخل المؤسسة العسكرية ايضاً مع الأسف الشديد في ظلّ خلاف ظهر الى العلن مُؤخراً ،بين وزير الدفاع وقائد الجيش…حتى كأن امواج التباينات والخلافات، قد اتت او قد تأتي على كل شيء جميل واحببناه في هذا الوطن الغالي على قلوبنا جميعا …هذا الوطن الذي خسرناه او نكاد نخسره على مذبح خلافاتنا وانقساماتنا وولاءاتنا المتباعدة….

واكمل سرور إننا نعيش حالياً في ظلّ الإنقسام الكبير الذي يعيشه الوطن بمختلف فئاته وشرائحه الاجتماعية …القضاء بأركانه ، والدولة باداراتها ومؤسساتها، الجيش والقوى الأمنية والتحدّيات التي تواجهها …وشبح الانهيار المخيم فوق رؤوس اللبنانيين، وهو يبدو انه يقترب برأي الكثير من المراقبين والمتابعين من نقطة الانفجار او الارتطام الكبير…

وبعد ان استمعتُ وقرأت وتابعت بإستمرار الى اجابات الأصدقاء والصديقات التي نشرها الملتقى وجدت انّ هناك الكثير منها قد لامس قلب الحقيقة في تقييم الواقع والتوقّعات، واستطاع بعضها ان يُحدّد مكامن الخلل، كما اساليب وطرق الاصلاح والعلاج …

ولكنني في المقابل وجدت ايضاً انّ هناك قراءات، مع تقديري لكاتبيها، لم تنفذ الى تشخيص ومكامن وعمق الأزمة الجاثمة بأبعادها التاريخية والسياسية العميقة. ولذلك وبصراحة أقول، أن لبنان، منذ تاريخ الاستقلال في العام ١٩٤٣، عرف ازمات مُتتالية وصولاً الى اندلاع الحرب الاهلية عام ١٩٧٣ والإقتتال الطائفي والمذهبي، نتيجة ضعف بنيته السياسية القائمة على اساس البُعد الطائفي في عملية انتاج وتقاسم السلطة.. فهناك منافع متبادلة، وصيغة مُلتبسة توارثناها منذ ما سُمي بالاستقلال ، اراد لها الفرنسيون وغيرهم ممّن اعترفوا بالإستقلال انذاك، ان تكون باباً مفتوحاً لأزمات لا تنتهي في جسَد هذا الكيان الضعيف .. وبالفعل هذا ما عاشه اللبنانيون في مختلف مراحل وجودهم السياسي والمناطقي ..فكانت ازمات مُتنقلّة لا تنتهي، وتباينات على كل شيء، حتى ابسط الأمور الوطنية الداخلية ظلت عالقة، ولم يتمّ التفاهم عليها، فبقيت جرحاً مفتوحاً يُهدّد الوطن واستقراره باستمرار. وقد عاش لبنان خلال السنتين الماضيتين، بعد حادثة انفجار مرفأ بيروت المريعة وما قبلها في ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، بروز معالم انتفاضة شعبية مُلتبسة المعالم، اختلف حولها اللبنانيون، كما هم مُختلفون اليوم حول كل شيء(….) لكن بالنتيجة خروج الناس الى الطرقات والساحات كان نتيجة ظروف ازمة اقتصادية ومعيشية قاسية وغير معهودة منذ انشاء الكيان اللبناني. فقد خرج الموجوعون اليائسون من فئات الشعب كلها، كما ان هناك فئات حاولت استغلال الحراك لصالح اهدافها ومآربها الخاصة او خدمة لأجندات طُرح حولها الكثير من علامات الاستفهام !!!.. . 

واضاف سرور،بالحقيقة إنّ هذه الأزمة الخطيرة، لم تكن وليدة ساعتها، بل نتيجة تراكمات وخلل في سياسات اقتصادية ونقدّية غير سليمة، لم تاخذ بعين الاعتبار واقع لبنان بشكل دقيق، وانطلقت من مسلمات ورؤى سياسية مبتورة وغير واقعية مع الاسف. 

وبرأيي ان مواطن الخلل في الاقتصاد اللبناني انطلقت من تقييمات ورؤى خاطئة ، لاسيما في مرحلة ما بعد الطائف ١٩٩٠، اي منذ مجيء الرئيس رفيق الحريري الى لبنان، ورعايته، مع الترويكا التي حكمت البلد بعد الطائف، نظام المحاصصات، وتشجيعه لنظام اقتصادي ريعي، ترعاه الطوائف وحيتان المصارف وكل سماسرة السياسة والاقتصاد في وطن المزرعة بكل اسف! 

 ففي مرحلة الرئيس رفيق الحريري تعاطت القوى المُتحكّمة بالسلطة بمختلف مستوياتها من دون استثناء، بالقرار السياسي والاداري تجاه الواقع المالي والنقدي كبقرة حلوب، فراكمت المصارف ارباحاً ضخمة، بينما كان الانفاق العام يتزايد بلا ضوابط، والدولة المُفلسة او على شفير الافلاس، تغرق بديون والتزامات مالية لا طاقة لها على مواجهتها داخلياً وخارجياً.

كل هذا الواقع المُتدحرج كان يحدث في ظل مكابرة وتغييب للحقائق، وابراز صورة اقتصادية لإقتصاد وهمي يقوم على فوائد خيالية وعوائد اغرت كل رجال الاعمال لإيداع أموالهم بالمصارف او الإكتتاب بسندات الخزينة بدلاً عن الإستثمار في مشاريع وخطط مُنتجة للإقتصاد الوطني.

وما يستنج من خلال تقارير الخبراء، ان واقع الازمة الاقتصادية المالية التي يشهدها لبنان، تأتي ضمن الأزمات الاقتصادية الأسوأ على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

لقد هوى إجمالي الناتج المحلّي الاسمي من قرابة 52 مليار دولار في 2019 إلى ما يُقدّر بنحو 23.1 مليار دولار في 2021. وواصل مساره الانهياري الى مستويات ادنى بمؤشّرات مالية مُقلقة طوال العام ٢٠٢٢. وقد أدّى استمرار الإنكماش الاقتصادي إلى تراجعٍ ملحوظٍ في الدخل المتاح للإنفاق. وانخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلّي بنسبة 36.5% بين عامي 2019 و2021. وقد أعاد البنك الدولي في يوليو/تموز 2022 تصنيف لبنان ضمن الشريحة الدنيا من البلدان مُتوسّطة الدخل، نزولاً من وضع الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل. 

وتجدر الإشارة ايضاً إلى أن مثل هذا الانكماش القاسي، يُصاحب في العادة الصراعات أو الحروب، وقد نشهده في البلاد ذات الاقتصادات غير المُستقرّة او المتوترة سياسياً وتشهد توترات في واقعها السياسي والامني.

وقد توقف القطاع المصرفي الذي فَرض بشكلٍ غير رسمي قيوداً صارمة على حركة رأس المال عن تقديم القروض أو اجتذاب الودائع. وهذا ما ادخل القطاع المصرفي بواقع اداري ومالي صعب على مدى ٣ سنوات منذ بدء الأزمة العاصفة بلبنان ( ٢٠٢٠، ٢٠٢١، ٢٠٢٢.. )، ولكنه يواصل عمله في نظام سداد مُجزَّأ يُميِّز بين الودائع الدولارية الأقدم (قبل أكتوبر/تشرين الأول 2019)، والحدّ الأدنى للتدفقات الوافدة الجديدة من “الدولارات الجديدة”. ويتعرّض أصحاب الودائع بالدولار الامريكي القديمة لإنخفاض حادّ في قيمة ودائعهم من خلال عمليات “الليرنة” والاقتطاعات القسرية الفعلية من الديون “haircuts” (التي تصل إلى 85% على الودائع الدولارية). وتُعد أعباء الإجراءات الجارية للضبط المالي وخفض المديونية ذات طبيعة تنازلية للغاية، حيث تُؤثّر على صغار المُودعين ومنشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة بدرجة أكبر. ويؤدّي تذبذب الاسواق المالية الى اهتزازات وانهيار في اسعار الصرف وتراجع في القيمة الشرائية للعملة الوطنية وفي حال من التضخّم، ما يؤدّي بالنتيجة الى وقف الكثير من الانشطة التجارية والصناعية للفئات المُتوسطة والمحدودة الدخل وتباطؤ نموّ الاقتصاد الوطني الى درجة صفرية او سالبة. 

واضاف سرور، وكان من تداعيات الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الوطني منذ سنوات، وصولاً الى السنتين الأخيرتين، انهيار العملة الوطنية، وسرقة او تبخّر اموال المودعين، وانهيار القطاع المصرفي اللبناني، وتراجع القدرة الشرائية لدى المواطن اللبناني. كما ساهمت سياسات الدعم، ومن ثم الغاء سياسة الدعم على اسعار المحروقات والغذاء والدواء، وطالت كل الاساسيات الحياة التي تمسّ معيشة اللبنانيين وقوتهم اليومي بشكل مباشر. وما فاقم الازمة الاقتصادية والمعيشية، هو واقع التجاذبات السياسية والسجالات والمناكفات، التي شهدها عهد الرئيس ميشال عون. فقد تركت هذه الخلافات والإنقسامات لبنان، رهين تجاذبات داخلية واقليمية ودولية لا حدود لها. 

واليوم ونحن في الشهر الاول من العام ٢٠٢٣، لا تزال الظروف الداخلية ملبدة، انقسام عامودي وافقي، مجلس وزراء يجتمع في ظل غياب رئيس للبلاد، مع شكوك كبيرة حول صلاحية مجلس الوزراء القانونية وحول قرارته، وكرسي رئاسي فارغ في ظل تكهّنات مُلتبسة، وتقاذف للتهم لا ينتهي بين مكونات الطبقة السياسية، مما ينعكس شللاً وتخبّطاً يطال كل الواقع السياسي والمعيشي في البلد؟! . ولكل ذلك نقول ان لا خلاص للبنان ولا قيامة الا بمواطنة صحيحة وسليمة، تُنتج طبقة سياسية تُحدّد سياسات واضحة، وخارطة طريق مُحددة في السياسة والأمن والاقتصاد والدفاع. كذلك، فنحن بحاجة الى رئيس جمهورية عليه اجماع وطني، يحمل ويُجسّد آمال وطموحات كل فريق نيابي فيه رجال دولة يؤمنون بالوطن وقضاياه بكل ما للكلمة من معنى، لا اتباع ومحاسيب عند هذا الزعيم او ذاك. كذلك نحن بحاجة ايضاً الى سياسة خارجية تستفيد من كل صداقات لبنان وعلاقاته الخارجية، ولا تستعدي الا عدواً واحداً هو الكيان الصهيوني. ومع الإنقسامات الحاصلة في الجسم القضائي نحن نحتاج في مطلع هذه السنة التي يبدو انها ستكون كارثية على كل المستويات، الى قضاء شفّاف فيه قضاة شرفاء نزيهون لا يخافون في احقاق كلمة العدالة او يخشون لومة لائم. اخيراً نحن ايضاً نحتاج الى قوى عسكرية واجهزة امنية مُقتدرة لا بائسة، همّها المواطن وحمايته والدفاع عن امنه وحقوقه وحرياته العامة، كما حماية ممتلكاته وكرامته الوطنية كانسان.

وختاماً قال سرور، تبقى الرؤية الاقتصادية هي المنطلق ويبقى الاقتصاد هو الاساس، فلا تقدّم بلا اقتصاد سليم ورؤية مالية ونقدية سليمة. فكم نحن بحاجة لرجالات اقتصاد وطنيين ونُخب وروّاد ورجالات فكر واعلام ينقذون لبنان من ازماته، وينطلقون بإقتصاده وقطاعاته المنتجة في الصناعة والزراعة والسياحة، وفي قطاع الخدمات، نحو التنوّع والازدهار في ظل دولة راعية، وحكومات مسؤولة، وطبقة سياسية واعية مؤمنة بهذا الوطن ومستقبله، وتكون مُؤتمنة عليه وعلى مستقبل اجياله الصاعدة.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal