اشتغلت الاستاذة الجامعية “جنى الحسن” على نص “لا نستطيع ان ندفع .. لن ندفع” لداريو فو الممثل والمخرج والكاتب المسرحي الايطالي الحائز على نوبل للآداب – 1997 وهو اليساري بأفكاره السياسية الامر الذي انعكس على نصوصه، والمسرحية المذكورة أعلاه، واحدة منها غير ان توليف النص واخراجه من قبل “جنى” خفف من خطابه السياسي المباشر محولا اياه الى عمل انساني تدور مشاهده في اطار ازمة الحاضر في لبنان بما يشابه ما تناول به داريو فو ازمة سنة 1974 الاقتصادية التي تعرضت لها أوروبا او بعض بلدانها.
قد يكون من المفيد بما سيأتي ، من قراءة للعرض المسرحي الذي شاهدناه على مسرح الرابطة الثقافية في طرابلس ،يوم الاحد الواقع فيه الثامن من أيار – 2022 ، من ان نقيم بعض المقارنات حول تحويل اللغة المنطوق بها في العرض وما تسرب اليها من كلمات ذات بعد عقائدي يساري، رفيق ومضمون أغنية للشيخ امام – سيّج قصورك وغيرها من الإحالة الى موت ناصر، لنعرف ان هذا ما تبقى من الأصل الأكثر حدة من ناحية تطعيمه بلغة اليسار بحيث مثلت اضافة الى الهيكل العام للقصة طارحة اشكالية حكايتها .وبهذا ابتعدت عن الترجمة الاشتراكية المباشرة للحوارات لتحولها الى مضمون انساني خالص بحيث انها استغلت هذا الأمر لخلق نوع من الكوميديا المطهرة لمن كان له تجارب يسارية سابقة وباءت بالفشل. الا ان الكوميديا والشخصيات المختلفة التي تنبض بالمحلية والمقطوفة من الواقع المعاش “هنا والآن” حضرت بكثافة وساعدت النتيجة بأن تكون على تماس بما يعيشه الجمهور المشاهد للمسرحية .فكانت “غيّر يا غزيّل” بذلك قد قطعت شوطا كبيرا نحو تفاهم وتواطؤ مع الحضور ولا يمكننا ان نسمي النتيجة المتماسكة بإيقاعها والمشغولة بدقة والتي ظهرت على خشبة المسرح بغير “الكوميديا السوداء”.
توليفة الحكاية/ ومشهدها ،وهنا قد نذكر بتشاوف العارف المتفلسف الكوميديا دل أرتي أو المفارقات للمهرجين أو المساخر- الفارس ، كلها اشكال قد نستلها من معاجم عن المسرح ونعتقد انها ساعدت على اخبارنا بداية القصة المنطلقة عن عريف يأتي الى احد المنازل باحثا عن بضائع تمت سرقتها خلال احتجاج عدد من النساء في تظاهرة حول ارتفاع الأسعار وحصول فوضى خلالها مما شكل مناسبة للحصول على حاجيات غذائية بدون دفع اثمانها.
العتمة الحالكة ترافق دخول العريف “العتر” الى منزل من منازل السيدات اللواتي شاركن بالسرقة ،وقد خبأت المغانم في اماكن لا يستطيع ان يصل اليها أحد، ومنها هذه اللحظة التي نرى كثيرا من المفارقات المضحكة المبكية، ومن اطرفها ادخال المواد الغذائية في ما يصور على انه بطن السيدة فتظهر وكأنها حامل وحيث ان زوجها والجيران يعرفون انها خلاف ذلك ليست حامل ابدا، مع تحول التفتيش الى علاقة ملتبسة بين العسكري الذي سيغيب ويحل بدلا عنه الجاران شفيق وتيسير اللذين يقعان ضحية أكل المعلبات الخاصة بالكلاب التي جلبتها فريدة وأديبة من السوبرماركت! هنا تستفيد المخرجة ايضا من العتمة لتكوّن مشهدا حول شمعتين و مشهد آخر عن تحويل الطحين الى عجينة تزفر عبرها الشخصية كل آلامها. كما تدخل ممثلين من الصالة الى الخشبة وتخرج واحد من كوة التلقين أي من تحت الى فوق.
هذه المفارقات في علاقات الشخصيات ببعضها البعض ومع ما غلفها من اسلوب التمثيل الراقص المتلون بأسلوب التهريج والارتجال اللذين يخلقان الضحك وينتزعان البهجة من افواه غالبية الحضور. وحيث توالت الضحكات بأسباب : اكل المواد المخصصة للكلاب كما وآلام الوضع للسيدة التي تنجب مواد غذائية سبق وخبأتها تحت فستانها وانتقال كل ممثل وممثلة من حالة الى أخرى وهم على تدريب واعداد كامل لأدوارهم بما يشبه الإيماء بدون كلام وبإتقان وتميّز بحث كان لكل منهم وقفة خاصة به : قاسم اسطنبولي ،الذي شارك ممثلا في دورين مختلفين العسكري العتر وأحد الجيران، إلى نورا حسام الدين، لارا الحاج وحمزة نضر الذين قد ساهم كل واحد منهم بحضوره مع نقطة إضافية شكلت حيوية العرض.
وان كان المرجو من هذا الكلام القول انه من الصعب التفريق والتفضيل بين القدرات التمثيلية للجميع أو على الأصح انه لا نجد في الامر فائدة لذلك عندما سنفاضل بين ممثل وآخر. فهذا لا يخفي عنا ان نلاحظ كم ان الادوات القليلة والفقيرة ساعدت ،على قلتها، فكانت كافية لبناء بيت واثاثه من اربع كتل تكون درجات تحولت الى مقاعد في حالة ومن ثم الى مخابئ سرية ومرة الى سرير متخيل لتضع المرأة طفلها المزعوم، وهي مستلقية عليه، والى جانبهم طاولة وحمالة من رفوف حديدية تستخدم مثيلاتها لوضع اكياس ” البطاطه والشيبس “في المحال التجارية للمأكولات او ما هو متوافر في المخازن الكبرى. هذا من ناحية الديكور اما الأغنيتين شيّد قصورك و غيّر يا غزيّل فكانت فاكهة العرض الذي ختم على يافطات توثق الماضي وربما تستشرف ما هو آت من مسيرات احتجاجية تحاول او تسعى في مرادها الى تمني تبديل حالات متفاقمة لما هو واقع اجتماعي اقتصادي متردي لا يظهر ان له نهاية.
لم تخطئ جنى الحسن عندما عرّفت عن ما قامت به باعتباره “توليفة” فلقد استفادت من كل ادواتها التعبيرية الى جانب الاستيعاب التام للنص بصيغته ألأصليه لتخرج بمرادف له او معاصر لما هو مطابق لحالاتنا اللبنانية وادارة كل هذا الفنون مع لعبة الممثلين الذين ظهروا كأنهم يتكؤون على ميراث كبير للارتجاليين المتمرسين في استنطاق الخشبة وتحميلها كل ما تتحمل وتحتمل من تكوين انصهارها التام لمكوناتها من الخروج بجماليات ساحرة و واعدة.
*سينوغرافيا: حسام خطاب و عمر الصاوي تقني صوت وإضاءة : محمد عكاري
الكاتب: جان رطل
المصدر: سفير الشمال
Related Posts