ان التربية والتعليم هما ركن اساسي في بناء الدولة، وأي خلل فيهما سيؤدي بالتأكيد إلى الفشل والاخفاق في الادارة العامة للبلاد على المستوى البعيد، لذلك يستلزم على صانعي القرار في الدولة كما على المتخصصين أن يتعاملوا مع العامل التربوي كأولوية في صناعة خطة التعافي على المستوى الوطني، ليس فقط في القرارات الداخلية، بل ايضا فيما يجب ان نطلبه من الجهات المانحة والدول الصديقة ومن المجتمع الدولي الذي أعرب عن نيته ورغبته في مساعدة بلدنا لمواجهة مأساة الانهيار الاقتصادي والمالي. وعلينا نحن بدورنا ان نساعد أنفسنا للنهوض بوطننا طالما ان الفرصة موجودة لدينا الان. فقد سئل أعرابي في الماضي: ما الدهاء؟ فأجاب: اجتراع الغصة واغتنام الفرصة. انها فرصتنا اليوم ان نعض على جروحنا الاقتصادية والمالية وان نبدأ بالتفكير فيما هو خارج عن المألوف في منظومة التربية والتعليم لدينا: انها شراكة لا بد منها بين القطاعين العام والخاص، والمنظمات المدنية والدولية.
وقبل الدخول في تفاصيل هذه الشراكة لا بد من تسليط الضوء على ثلاثة عوامل اجتمعت خلال الاعوام الثلاث المنصرمة وكان لها الاثر السلبي الاكبر على القطاع التربوي بين كل القطاعات الاخرى في البلاد، وهذه العوامل هي اولا الانهيار المالي والاقتصادي، وثانيا جائحة كورونا، وثالثا انفجار مرفأ بيروت. وفي حين ان العامل الاخير كان له التأثير السلبي المباشر في العاصمة بيروت فان العاملين الاولين طاولا الوضع التربوي على المستوى الوطني، وقد اديا الى توسيع الهوة بين القطاعين العام والخاص، فكلنا يعرف ان البنى التحتية في لبنان غير مجهزة للتعلم عن بعد، وبالتالي فان هذه التقنية التي توفرت لجزء كبير من طلاب القطاع الخاص كانت محدودة في وصولها الى طلاب القطاع العام، نظرا لفقدان التيار الكهربائي وعدم القدرة على الاشتراك بالمولدات ناهيك عن الاتصال بالشبكة العنكبوتية والانترنت، لكل ذلك فان الهوة التي كانت اساسا موجودة بين القطاعين العام والخاص قد توسعت بشكل كبير خلال الاعوام الثلاث المنصرمة.
لذلك فان طموحنا اليوم هو ردم جزء من الهوة القائمة بين القطاعين العام والخاص ان لم يكن بالإمكان ردمها كلها حاليا بسبب الاوضاع المالية الصعبة للدولة، وبالتالي فان رؤيتنا لعملية ردم الهوة تبدأ بوقف كل مزاريب الهدر في القطاع التربوي العام واطلاق اوسع عملية اصلاح اداري فيه، وهنا لا بد ان يكون لدينا الجرأة في ان نطرح للنقاش مدى أهمية وجود المدارس المجانية وشبه المجانية في ظل انتشار التعليم الرسمي في كل المناطق اللبنانية، فهذا النوع من المدارس الذي يكلف الدولة مليارات الليرات كل عام كان حاجة ملحة قبل أكثر من نصف قرن بسبب النقص الحاد في عدد المدارس لدينا اما اليوم فان بعض القرى النائية لديها اكثر من مدرسة رسمية واحدة مع عدد طلاب أحيانا يكون اقل من عدد الأساتذة والاداريين فيها. من هنا لا بد ان نوقف هذا الهدر غير المبرر وان نجري دراسة شاملة لعملية دمج المدارس الرسمية التي لا جدوى لبعضها. قد يقول البعض وماذا سنفعل بالمدرسين في المدارس التي سيتم دمجها، الجواب يكون أيضا في إعادة توزيع الأساتذة على المدارس بطريقة علمية تحمل معايير محددة يضعها بالشراكة فريق من الاخصائيين. ولا بد من الاشارة هنا الى ان هناك مدارس لديها نقص حاد في عدد الأساتذة خاصة بعد ان خسر لبنان كفاءات كثيرة في قطاع التعليم بسبب الهجرة وعليه يمكننا بهذه الطريقة اعادة توزيع الاساتذة وانصاف المتعاقدين في الوقت نفسه.
وفي الشق المتعلق بالقطاع العام ايضا لا بد من إيلاء أهمية كبيرة للتعليم المهني والتقني وهنا لا بد من البدء بالتخطيط الفعلي للتعليم المهني وفقا لحاجة سوق العمل في البلاد من اجل الوصول الى وضع يتوقف معه الاعتماد على اليد العاملة الأجنبية التي تستنزف العملة الصعبة، اما في الموضوع التقني فان القطاع العام وبحسب تجربة العامين المنصرمين فهو يعاني نقصا كبيرا يجعلنا متخلفين عن ركب التطور لذلك لا بد من تعزيز هذا القطاع لا سيما في المدارس الرسمية.
اما في موضوع الجامعة الوطنية الرسمية، أي الجامعة اللبنانية، فان تشظيها بالشكل الذي هي عليه اليوم وفقا لمحاصصات غير مجدية تنتج خريجين عاطلين عن العمل، فلا بد من إعادة النظر بانتشار الفروع وإعادة تجميعها وفق حاجات المناطق ووفق خطة تقوم أولا على حاجة سوق العمل لاختصاصات معينة، وتجهيز المجمعات الجامعية بالاحتياجات الضرورية، كما لا بد من احياء كلية التربية التي كانت المنبع الأساس لتخريج أساتذة التعليم الثانوي بكفاءة عالية. ان الجامعة اللبنانية شكلت على مدى عقود مفخرة التربية الوطنية في لبنان ولا بد من استعادة دورها.
وبعد هذه العجالة في قراءتنا لما يتوجب علينا حيال القطاع التربوي العام وفي عودة الى موضوع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ومع التنويه بضرورة النهوض بالقطاع العام اولا فان موضوع الشراكة بين هذين القطاعين حظي باهتمام كبير من قبل الدول والمراكز البحثية في مختلف أنحاء العالم منذ اواخر الثمانيات من القرن الماضي. ان الشراكة بين القطاعين العام والخاص في وضعنا اللبناني لها شكل ثلاث دوائر متداخلة، وإذا كان القطاع العام الذي يستقطب الشريحة الأكبر من طلاب لبنان هو الأضعف في وضعنا الراهن بسبب الازمة الاقتصادية، فان انعاشه لا بد ان يقوم بالاعتماد أولا على دراسة علمية لخطة حكومية تربوية في هذا القطاع وفق العناوين الانفة الذكر، مع التوجه الى الجهات المانحة والدولة الصديقة والمجتمع الدولي بطلبات محددة وفق هذه الخطة.
لقد أصبحت شراكة الدولة والفاعلين الرئيسين والمتمثلين في القطاع الخاص الاستثماري والقطاع المدني ظاهرة مسيطرة خلال السنوات العشر الماضية نتيجة لعدم كفاية الاستثمارات والضغوط المتزايدة على ميزانيات الحكومات، بالإضافة الى القلق العام تجاه عدم كفاءة الخدمات التي تقدمها المؤسسات الحكومية، وقد خلصت بعض الدراسات التربوية الى أن الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص بشقيه الربحي وغير الربحي ستؤدى الى مزيد من التدعيم لقطاع التعليم بما سيترتب عليه من دعم للعديد من المدارس وإداراتها بطريقة اكثر كفاءة وفاعلية وتقديم خدمات اكثر تميزا.
واتّضح بأنّ عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية تعتمد على حشد جميع إمكانات المجتمعات بما فيها من طاقات وموارد وخبرات في القطاع العام وكذلك الخاص والمجتمع المدني والجمعيات الاهلية والوكالات الدولية لتشكّل الشراكة بين هذه القطاعات السبيل الوحيد لتعافي التربية والتعليم في لبنان خاصة اذا ما كانت شراكة طويلة الأمد.
وهنا تكمن أهميّة هذه الشراكة إذ إنّ القطاع الخاص في لبنان اثبت عبر الزمن انه أكثر ديناميكية لجهة التطوير بسبب بعده عن الكثير من الضغوطات السياسية والمحاصصات الطائفية والعمل على الحرص بتوظيف الكفاءات. خصوصًا وأنّه يسعى لرفع إنتاجيته ممّا ينعكس إيجابًا على الجودة والنوعية من جهة، وعلى خفض الكلفة من جهة أخرى.
وتكمن مبرّرات اللجوء إلى أسلوب الشراكة بالنقاط الآتية:
- عدم قدرة القطاع العام على النهوض اليوم منفردا.
- التغير التقني والتكنولوجي والمنهجي السريع الذي لا ينتظر البيروقراطية الرسمية لدى الدولة.
- ضغوط المنافسة المتزايدة خاصة فيما يخص نزوح التلامذة من القطاع الرسمي الى الخاص.
- محدودية الموارد المالية والبشرية لدى القطاع العام، وعدم قدرته على مواكبة التطوّر التكنولوجي بسبب تعدّد المجالات والمشاريع التي يتطلب تنفيذها من قبل الدولة.
- المدارس الخاصة شبه المجانية واغلبها مدارس تابعة للمؤسسات الدينية المنتشرة في لبنان مقابل مدارس رسمية عدد اساتذتها يفوق عدد التلامذة.
المطلوب اليوم وبسرعة:
– اعتماد خطة واضحة للنهوض بالقطاع العام وفق العناوين المذكورة سابقا مع دعم سياسي لبناني ودولي ومؤسساتي على المستوى الوطني يؤدي الى اعطاء هذه الشراكة اولوية لان الازمة الاقتصادية الحادة تنذر بتسرب اعداد كبيرة من الطلاب خارج إطار التعليم العام والخاص وبالتالي فان شبح الامية يهدد مستقبل جيل بأكمله.
– تحليل مفصل للإيجابيات كما السلبيات من جميع جوانب الشراكة.
– الرغبة من قبل الشركاء في القطاع العام بالقبول بحلول سريعة ومبتكرة.
– التزام مبادئ الحوكمة الرقمية الرشيدة َ وخاصة الديمقراطية الرقمية في سبيل تعزيز الشفافية والعدالة الرقمية المجتمعية.
– رقابة فعّالة.
– البدء باختيار مدرسة رسمية في كل قضاء تقوم بشراكة مع مدرسة من القطاع الخاص بحيث يمكن تكرار التجربة لتحفيز القطاع الخاص.
– اشراك المجتمع المدني المتخصص في حوكمة التربية وتبادل الخبرات والتكافل للتعافي.
المطلوب لخطة متوسطة المدى:
- اعتماد مبدأ حق التربية على الابتكار للجميع واعادة تفعيل تعليم مادة التكنولوجيا في شتى احتياجات التربية.
- تعزيز الشراكة بين القطاعين الخاص والعام في سبيل تحقيق المواطنة والتربية على أهداف التنمية المستدامة.
- أنسنة القطاع التربوي في سبيل بناء السمعة، والمصداقية، وطنياً وعالمياً.
- الإسراع في وتيرة تطوير المناهج التربوية لتحاكي متطلبات اقتصاد المعرفة وتحديات الثورة الصناعية الرابعة.
- اعتماد اللامركزية في ادارة شؤون المدارس الرسمية ووضعها في امانة المناطق التربوية والبلديات التي تقع في نطاقها ولفترة زمنية محددة.
- دعم صناديق الاهل من قبل المغتربين والمقتدرين لدعم المعلمين والمتعلمين وتجهيز البنى التحتية والتجهيزات للمدارس الرسمية
علينا اليوم وبكل جدية ان نفكر ببناء وطن. فما زال لبنان حتى اليوم ينتظر مواطنيه. والمواطن تصنعه التربية بكل مكوناتها. واولوية لبنان اليوم هي اولاده ومحط اهتمامه الأول والأخير، فهم داؤه ودواؤه وسيتعافى من خلالهم ومن خلال التربية والتعليم، واذا استطعنا اليوم معكم انقاذ التعليم نكون قد وضعنا حجر الاساس لإنقاذ لبنان وبناء الانسان.
الدكتورة هبة نشابة
(*) المستشارة التربوية لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي
(**) هذه المداخلة ألقيت خلال اللقاء التشاوري للانقاذ التربوي الذي عقد في القصر الحكومي.