عندما يتآكل الدستور والقانون والنظام.. وينسحب المواطن من العمل العام!.. بقلم: د. عبدالرزاق القرحاني

 شهدت المجتمعات بشكل عام، تحوّلاً عميقاً في المشاركة بالشأن العام. ولعل أخطر ما يتعرض له المجتمع، ليس لحظة إنسحاب المواطن من الحياة العامة قهراً وتهشيماً وتهميشاً فقط، بل قناعة أيضا. 

عندها لا يبقى الفراغ محايداً، بل يتحول سريعاً إلى مساحة مفتوحة أمام إحتكار القرار، وتغوّل السلطة، وتآكل ما تبقّى من معنى للإنتماء والهوية.

 

ما نشهده اليوم ليس مجرد تراجع في نسبة المشاركة السياسية أو فتور في الاهتمام بالشأن العام، بل تحوّلٌ أعمق، يتحول المواطن فيه من شريك في القرار إلى فرد منشغل بذاته يبحث عن نجاته وسط عالم مضطرب، ويعتبر الشأن العام عبئاً لا طائل منه ومصدراً للمتاعب.

 

هذا التحوّل لم يأتِ صدفة، بل هو نتيجة سنوات من خيبات الأمل وإنسداد الأفق وغياب العدالة، حين بدت السياسة كأنها شأن مغلق على فئة، والدولة كأنها كيان منفصل عن مجتمعها.

 

إنسحاب المواطن لا يعني حياداً، بل يفتح الباب أمام قوى منظمة تملأ الفراغ، زبائنية وشعبوية أو سلطوية. وحين يغيب الحراك والضغط الشعبي تضعف المحاسبة، وتتآكل الحريّة والديمقراطية بكل هدوء، حتى تتحول إلى شكل بلا مضمون.

الأخطر، أن هذا الإنكفاء يُنتج مواطناً منزوع الحس الجماعي، يرى في الآخَر منافساً لا شريكاً، وفي العمل الجماعي خطراً لا سند.

 

 أما في لبنان، لم يعد تراجع دور المواطن في الشأن العام ظاهرة عابرة، بل بات أحد العناوين الكبرى لانهيار الدولة الغابرة.

فبعد أكثر من ثلاثة عقود على إتفاق الطائف، يبدو أن العقد الإجتماعي الذي وعد بالخروج من الحرب إلى الدولة قد تآكل، لا لأن نصوصه استُنفدت، بل لأن روحه أُفرغت، ومواطنيته أُقصيت، واستُبدلت بنظام محاصصة أعاد إنتاج الحرب بأدوات سياسية وإقتصادية.

 

 دستورالطائف قام (نظرياً) على إعادة الإعتبار للمواطنة، وتعزيز دور المؤسسات وتوسيع المشاركة. لكن ما جرى (عملياً) هو العكس تماماً، جرى تفكيك الدولة لمصلحة زعامات طائفية، وتحويل المواطن إلى تابعٍ، وليس شريكا في بناء المجتمع. 

ومع كل إستحقاق كان يُطلب من هذا المواطن اللبناني أن يصوّت طائفياً ويصمت وطنياً، وأن يسلّم أمره لمنظومة تحكم بإسمه وتفشل بإسمه أيضاً.

 

ثم جاء الإنهيار المالي ليكشف حقيقة الخلل والعطب كاملة. إنهارت العملة وتبخّرت الودائع وتراجعت الخدمات الأساسية، فيما تُرك المواطن وحيداً في مواجهة أزمة لم يكن طرفاً في صنعها.

هنا بلغ الإنسحاب والإنكفاء ذروته، لم يعد المواطن يسأل عن السياسات العامة، بل عن كيفية البقاء. تحوّل الحق إلى مِنّة، والدولة إلى عبء، والمشاركة إلى ترف لا يملكه من يكافح يومياً لتأمين أساسيات العيش.

 

في هذا السياق، برزت اللامركزية الإدارية والمالية، كفكرة إنقاذية، لكنها بقيت معلّقة بين خطاب إصلاحي صادق، وإستخدام سياسي إنتقائي. 

اللامركزية الإدارية والمالية، إذا فُهمت كوسيلة لتعزيز المشاركة والمساءلة المحلية، يمكن أن تعيد المواطن إلى الشأن العام. أما إذا استُخدمت كغطاء لتكريس زعامات محلية جديدة، أو لتفكيك ما تبقّى من هذه الدولة، فإنها تتحول إلى خطر إضافي لا إلى حل.

 

وفي موازاة هذا الإنسداد، تتقدّم الهجرة كخيار شبه وحيد. آلاف اللبنانيين – ولا سيما من الشباب وأصحاب الكفاءات – يغادرون، ليس بحثا عن رفاهية، بل عن كرامة وفرصة.

الهجرة هنا ليست مجرد نزيف بشري، بل هي هجرة مواطنة، يغادر فيها الفاعلون ليبقى الفراغ الذي يزيد الدولة ضعفاً. وتُترك الساحة لمن يراهن على اليأس كأداة للحكم.

 

والنتيجة، مجتمع مفكك وإقتصاد هش وسياسة بلا مواطنين. وفضاء عام متآكل، تُدار فيه الخلافات الطائفية أكثر مما تُدار فيه الشؤون العامة، وتُستهلك فيه الشعارات السيادية بدل أن تُبنى السيادة فعلاً.

 

إعادة الإعتبار للمواطنة في لبنان تبدأ بإعادة قراءة الطائف بوصفه مشروع دولة لا صفقة تقاسم.

تبدأ باستعادة المال العام والحقوق المنهوبة، وبإصلاح مالي يعيد الثقة لا يُعمّق الظلم.

تبدأ بلامركزية تعزّز المشاركة لا التفكك، وبسياسات تبقي الشباب في وطنهم بدل دفعهم إلى الهجرة.

والأهم، تبدأ بكسر ثقافة الإنسحاب والإنكفاء في تفعيل منتديات وكيانات للعمل العام، أمام مواطن يريد أن يكون شريكاً، لا شاهداً على الإنهيار.

 

في لبنان، لم يعد السؤال كيف نُنقذ النظام، بل كيف نُعيد المواطن إلى قلب الدولة وهذا النظام. 

فالدول لا تنهار حين تفشل الحكومات فقط، بل حين ينسحب مواطنوها من الإيمان بأن الشأن العام شأنهم، ومصير البلاد مصيرهم.

 

 

 

Post Author: SafirAlChamal