خاص – سفير الشمال
في شباط من العام 2023، استفاق الشمال اللبناني على واحدة من أفظع الجرائم التي هزّت الضمير العام: الشيخ أحمد شعيب الرفاعي، إمام وخطيب في منطقة القرقف – عكار، يُختطف ويُقتل وتُرمى جثته في حفرة ضمن مكبّ نفايات، في جريمة مدبّرة ارتكبها ابن عمّه الشيخ يحيى الرفاعي، رئيس بلدية القرقف، الذي لا يزال موقوفًا قيد التحقيق.
لكن الجريمة لم تكن مجرد خلاف عائلي تطوّر إلى دم، بل كانت ذروة لمسار طويل من الفساد الإداري والسطوة الأمنية والتواطؤ القضائي. سنوات من التحذيرات والتوثيق وملاحقة التجاوزات قوبلت بالصمت، إلى أن أُسكت صوت الشيخ أحمد نهائيًا.
واللافت أن الجريمة الأولى ارتكبها شيخ معمّم ومنتسب إلى دار الفتوى، لتأتي الفضيحة الثانية فتعمّق السخط، وتفضح وجهًا آخر من الانهيار القِيَمي: رجال دين تحوّلوا إلى سماسرة وتجار، يبيعون الوهم، ويتقنون فنون الاحتيال السياسي.
“أبو عمر”: المسرحية التي انطلت على السياسيين والمتموّلين
مصطفى الحسيان، عامل حدادة من عكار، انتحل صفة “أمير سعودي” يُدعى “أبو عمر”، وقدّم نفسه على أنه مقرّب من الديوان الملكي. وانطلقت المسرحية، التي استمرّت لسنوات، برعاية ومشاركة مباشرة من الشيخ خلدون عريمط، القاضي الشرعي السابق، والمقرّب من تيار “المستقبل”، والذي رُقّي إلى مناصب دينية متعددة في عهد رئيس الحكومة السابق سعد الحريري.
عريمط، الذي نسج شبكة علاقات سياسية واسعة، لعب دور الوسيط والضامن، وفتح الطريق أمام “الأمير الوهمي” إلى صالونات السياسة والمال، مُقدّمًا إياه كصاحب نفوذ خليجي قادر على التغيير في المعادلات السياسية.
انطلت الخدعة على وزراء ونواب ورجال أعمال، ودفع بعضهم مبالغ طائلة تراوحت بين عشرات آلاف الدولارات وصولًا إلى نصف مليون دولار، مقابل وعود بالتوزير، أو بدعم سعودي للعودة إلى المجلس النيابي.
“أبو عمر” لم يظهر علنًا يومًا، بل اكتفى باتصالات هاتفية بلهجة بدوية متقنة، بينما كان عريمط يؤمّن له الغطاء السياسي والشخصي، ويتقاسم معه الأموال المحصّلة من “الضحايا”، سواء لحساب جمعيات أو أشخاص، أو باسم “مشاريع دعم سعودية”.
وبات عريمط صاحب الحظوة السعودية، وبالرغم من أن الحيرة انتابت عددًا من مشايخ عكار والشمال، إلا أن أحدًا لم يتحقق من علاقات عريمط التي يدّعيها مع الديوان الملكي، حيث كان يوزّع المناصب ويُزكّي البعض.
بحسب المعلومات التي حصلت عليها “سفير الشمال”، بدأت القصة تنهار عندما توصّل عدد من المرشّحين إلى تحليلات متقاطعة حول ما يجري معهم أثارت الشك، فأبلغا السفير السعودي وليد البخاري، الذي كان قد تلقى شكاوى متفرقة سابقًا دون القدرة على التقاط طرف الخيط.
البلاغ كان حاسمًا، إذ بدأ تتبّع الاتصالات، وسرعان ما انكشف أن “أبو عمر” ليس سوى الحسيان نفسه.
وبعد التنسيق الأمني، أوقفته مخابرات الجيش اللبناني قبل ثلاثة أشهر، فبدأت خيوط الفضيحة تتساقط تباعًا، وسط تردّد دار الفتوى، التي لم تصدر حتى اليوم أي موقف حاسم، رغم أن أحد رجالها البارزين هو صلب هذه الفضيحة.
وجه واحد… لجريمتين
في القرقف، قُتل الشيخ أحمد لأنه تجرّأ على فضح الفساد، فجرى محاصرته أمنيًا وقضائيًا، وتُرك وحيدًا في وجه ماكينة سياسية متشابكة.
وفي بيروت، انخدعت النخبة السياسية بصوت وهمي، لأن المنظومة برمّتها باتت تركض خلف الدعم الخليجي، وتُصغي لما يُشبه النفوذ، أكثر مما تلتفت لمطالب الناس.
الشيخ أحمد تنقّل بملفاته بين الوزارات والقضاء والرقابة، وثّق الانتهاكات، وحذّر من انفجار قادم، لكن الدولة لم تسمعه، لأنه ببساطة لم يكن يحمل الغطاء المناسب.
أما “أبو عمر”، فدخل من أوسع الأبواب، لأنه جاء بوعد “الدعم الخليجي”.
في الحالتين، الفاعل المباشر ليس وحده المسؤول. فالجريمة الأولى شارك في صناعتها الأمن، القضاء، وسلطة المشايخ الصامتين. والثانية صنعها الجهل السياسي، والارتهان للخارج، وغياب أي معايير تحكم الحياة السياسية في لبنان.




