تعكس نتائج الانتخابات الأمريكيّة الأخيرة تغيّراً في المزاج العامّ الأميركي، وتعزيزاً لتوجّهات “نهج الأمركة” الذي يشدّد عليه الجمهوريوّن مقابل العولمة التي يتبنّاها الديمقراطيّون.
يُعتبر “نهج الأمركة الجمهوري” استراتيجيّة محافظة تعبّر عن الرغبة في التركيز على المصالح الوطنيّة للولايات المتّحدة وتقليل الاعتماد على المؤسّسات والتحالفات الدوليّة، والجمهوريّون ينظرون إلى الأمركة على أنّها تعزيز لسيادة أميركا في الاقتصاد والسياسة عبر دعم الصناعات المحلّيّة، والتركيز على الإنتاج الفعلي والأصول الثابتة، أي المحافظة على القطاعات التقليديّة في الاقتصاد كالصناعة والزراعة وإنتاج الطاقة، وتفعيل “السياسات الحمائيّة” للسلع المُنتجة محلّيّاً، والابتعاد عن نمط الاقتصاد الافتراضي الذي انتهجته العولمة بفعل سياسات الحزب الديمقراطي التي اعتمدت على نمط التجارة الحرّة المنفتحة، وبناء الشراكات، والإيمان بأنّ تعزيز النموّ وحلّ العقبات الاقتصاديّة يكون عبر التكامل مع الاقتصاد العالمي، وهذا ما يعتبره الجمهوريّون السبب الذي أدّى إلى المساس بجوهر وروح الاقتصاد، ودفع به إلى الخمول والتراجع.
ضمن هذا السياق، نرى أنّ الانقسام العاموديّ هذا ينسحب على العمق الاجتماعي وبنية المفاهيم الثقافيّة في المجتمع الأميركي، فكان المشهد يترجم الجنوح إلى معسكر المحافظين في أميركا، وهم دعاة التمسك بالقوميّة والدين، والحفاظ على تماسك الأسرة وعدم تقبّل الأقلّيّات والمهاجرين، والإيمان العميق بدور العِرق الأبيض في السيادة في وجه المكوّنات الأخرى.
الجمهوريون لطالما مثّلوا مصالح النافذين في أسواق المال والمصارف، والنخب في السياسة والإعلام، وأرباب الاقتصاد التقليدي، في وجه دعاة العولمة وثقافة الاستهلاك والاقتصاد الافتراضي والإجهاض وحقوق المثليّين، من سكّان المدن والتمركزات السكّانيّة الكبرى التي رأت مصالحها أقرب لجوقةٍ أقلّ محافظةٍ عند الديمقراطيّين قد تتماهى أكثر معها.
إنّ هذا التحيّز للأمركة لديه دلالات تعبّر عن قلق الناخب الأميركي، في ظلّ شعوره أنّ مكانة بلاده بالمساهمة في الاقتصاد العالمي قد انخفضت من ٣٠٪ إلى ١٢٪ حاليّاً، وهذا ما يؤكّد تراجع السيادة الاقتصاديّة الأميركيّة في العالم، كما أنّ نسب البطالة في عهد الرئيس بايدن أشارت إلى حجم التراجع والمأزق الذي بات يكبّل الدولة في قدرتها على العطاء والتقديمات الاجتماعيّة؛ أضف إلى ذلك تفلّت الكثير من التداولات العالميّة بعملة الدولار وفقدانه لجزء من هيمنته كعملة عالميّة، ممّا أفقد الدولة الأميركيّة قدرتها على طباعة المزيد من الدولارات لتمويل مشاريعها، نتيجة لبدء انخفاض الطلب على الدولار، وما حدث بين الصين والسعودية من فرضٍ لاعتماد اليوان الصيني كعملة سداد لثمن النفط السعودي ما هو إلّا دليل على ذلك.
كما أنّ التعبير عن التطرّف للأمركة جاء هذه المرّة كترجمة لأفول زمن العولمة الذي ساد العالم بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، وجنوحه إلى محو خصوصيّات الدول واعتباراتها الوطنيّة والعِرقيّة والثقافيّة، والذي يعمل ضدّ الطبيعة البشريّة على خلق مجتمع عالميّ استهلاكيّ لا يقيم أيّ وزن للقيم الإنسانيّة، ويشجّع المثليّة والإجهاض وتفكّك الأسرة، لتكون فيه أميركا متربّعة على عرش السيادة وتتبعها دول وشعوب الأرض كمستهلكين ومروّجين لثقافة الاستهلاك والتبعيّة، دون أيّ اعتبار لقضاياهم الوطنيّة أو حتى مصالحهم القوميّة.
ثمّ إنّ تنصيب التكنولوجيا كأداة بديلة عن طبيعة وروحيّة الشعوب والجيوش والأمم شابه الكثير من الخلل في مسار تلك النظريّة، التي فشلت في الانتصار بالحروب العسكريّة التكنولوجيّة البحتة على قاعدة تصفير الخسائر، واللعب بمصائر الشعوب من وراء الحاسوب، ويعزى ذلك إلى طبيعة البشريّة التي تخوض الحروب بفرض الإرادات والإيمان بالقضايا، وليس فقط باستجلاب الجيوش التي تعمل بالفضاء الاعتباري وتحويلها إلى روبوتات تكنولوجيّة خالية من روح الاندفاع والإيمان بما يفعلون، وكانت حرب أفغانستان والعراق والهروب الأميركي من مستنقعهما أكبر دليل على فشل حروبهم الافتراضيّة.
هذا المشهد التكنولوجي الافتراضي ينطبق أيضاً على الاقتصاد، ممّا عزّز فرصة الصين بالاستحواذ على حصّة الأسد من حجم صناعة وإنتاج العالم بفعل تركيزها على الواقع والأصول الثابتة والإنتاج الحقيقي، بدلاً من الاعتماد على الاقتصادات الاعتباريّة التي لا تُثمن الشعوب ولا تغنيها في يوم العراء والجوع.
في ظلّ هذا الواقع، جاءت الأمركة كيقظة في مسار أميركا الانحداري عالميّاً، وما شعار حملة الرئيس ترامب “لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى” إلّا اعترافٌ ضمنيٌّ منه بأنّها لم تعد عظيمة، وهذا قابله شعورٌ متبادلٌ في أوروبّا، تُرجم بنتائج الانتخابات البرلمانيّة الفرنسيّة والبريطانيّة الأخيرة، التي أظهرت تطرّفاً مستجدّاً نحو أقصى اليمين، وهذا ما سوف يلاقي خيارات الناخب الأميركي المحافظة نحو الجمهوريّين، ويعمل على إظهار تحوّلات جديدة في الساحة الدوليّة تجعل من أميركا أكثر تقوقعاً ورغبةً بالتخفيف من الالتزامات العسكريّة والاقتصاديّة مع الحلفاء، وكان ذلك جليّاً في خطابات الرئيس ترامب، وعلى المقلب الآخر في تمسك الأوروبّيّين أكثر بخياراتهم الوطنيّة، وببداية صحوة تتساءل عن جدوى الانجرار الأعمى وراء أميركا في السياسات الدوليّة، ممّا سيعزّز فرص نشأة وسعي وتماسك معسكرات جديدة ناهضة في العالم، تكمن مصلحتها باقتناص الفرصة التاريخيّة والصعود في وجه التفرّد الأمريكي.
لقد عانت البشرية من الأُحاديّة القطبيّة الأمريكيّة ودفعت جرّاءها أثماناً باهظةً من حرّيّاتها وحقوقها وسياداتها، ومن مصالحها الوطنيّة، وهذه المصالح سوف تشكّل في قادم الأيّام صخرة الحقّ التي ستتحطّم عليها آلة الجبروت والطغيان الأمريكيّة على مستوى العالم.
Related Posts