الإعلام الرقمي في طرابلس والشمال… معاناة لا تنتهي! بقلم بلال حجازي

يواجه العاملون في حقل الإعلام الرقمي في الشمال عمومًا وفي طرابلس خاصة، العديد من التحديات التي تؤثرعليهم على مختلف الأصعدة، وتُضعف فعالية عملهم واستدامته. وازداد الاعتماد على هذا النوع من المنصات الاعلامية البديلة في الاعوام الماضية مع تراجع الإعلامالتقليدي الذي كان المصدر الأوحد للأخبار والمعلومات. وتتنوع تلك التحديات بين الاقتصادية، التقنية،الاجتماعية، السياسية وحتى الأمنية.

وكانت دراسة للدكتور أسعد صدقة بعنوانحرية التجمع الصحافي الواقع والتحديات (أُطلقت عام 2024 ضمن مشروع إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان الذي تنفذه مؤسسة مهارات، بدعم من بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان) قد خلصت إلى أن كل هذه التحديات تفرض ضرورة إيجاد قوانين عصرية تواكب التطورات المتسارعة وتعيد تعريف آليات العمل الإعلامي بما يحفظ للصحافيين حقوقهم، وينسجم مع التحولات التي حصلت على أرض الواقع. ومن بين هذه التحولات المشهدية الجديدة للفضاء الإعلامي الواسع، بما يتضمنه من صحافة مكتوبة، وإعلام مرئي ومسموع ورقمي، فضلاً عن منصات الإعلام الاجتماعي الآخذة بالنمو، ويتعاظم دورها وتأثيرها يومًا بعد يوم.

كما وأوصت دراسة لمؤسسة مهارات عام 2021 بعنوانتقييم المشهد الإعلامي والمعلوماتي في لبنانوسائل الإعلام البديلة بالعديد من الأمور منها: اعتماد مصــادرمتعـددة للإيرادات، السـعي للحصـول علـى الدعـم القانونـي لتحسين وضعها القانونـي، تعزيز العلاقات مـع الجمهـور الحالـي وفهــم اهتمامات الجمهور وتصوراته لاسـيما الجماهيـر الأصغر سـنًا، وتوسيع الوصــول علـى المستوى الجغرافي.  

التحدي الأكبر!

يعدُ العامل الاقتصادي التحدي الأكبر في استمرار العمل الإعلامي على الأرض وديمومتة، لنقل الواقع كما هو بإتقان وحرفية، ويعاني الإعلام الرقمي في الشمال اللبناني من الاستدامة المالية، فتعتمد العديد من المنصات على التبرعات والإعلانات، التي قد لا تكون كافية لضمان استمرار عملها، وتحقيق استقلاليتها، والحؤول دون السيطرة عليها من قبل السياسيين أو أصحاب رؤوس الأموال، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية في لبنان عمومًا، والتي تؤثر بشكل مباشر وسلبي على قطاع الإعلام بأكمله.

يقول رئيس التحرير السابق لمنصة إخبارية شمالية (الحدث أون لاين) وسيم أدهمي أن من أبرز التحديات التي يواجهها الإعلامي اليوم هي التحديات الاقتصادية،وغالبًا ما يُطلب من الصحافي عمل إبداعي مميز، فيما الرواتب دون المستوى المطلوب. ويتابع أدهمي،يمتنع أصحاب العمل أو المؤسسات عن إبرام عقود تحمي حقوق الأطراف ولا سيما الصحافي، للتهرب من دفع التعويضات عند الاستغناء عن خدماته“.

وإن كان هذا الكلام لا ينسحب على بعض المؤسسات الكبرى، فإنه يعكس الواقع الذي يعيشه الصحافي في المواقع الالكترونية شمال لبنان. ويختم أدهمي،من هنا تأتي أهمية تأسيسنقابة الإعلام الإلكترونيعلى نحو نقابة الصحافة اللبنانية، وأيضًانقابة العاملين في الإعلام الإلكتروني، على نحونقابة المحررين، بهدف تنظيم المهنة وضمان حقوق جميع الزملاء“.

وفي هذا الإطار، يقول رئيس تحرير موقع سفير الشمال غسان ريفي أن حقوق الصحافي يجب أن تكون مُصانة بشكل كامل. وإذا لم يتوفر له ضمان اجتماعي، من المفترض أن يكون هنالك تأمينًا صحيًا، أو أن تتحمل الصحيفة مسؤولية ما قد يحدث له في حال كان في مهمة عمل وتعرض لأي أذى.

ويتابع ريفي، لا شك اليوم بأن هذه الحقوق هي واجب على كل إدارات الصحف، لكن البعض يطبقها والبعض الآخر لا يطبقها، وخصوصًا بعض المواقع الإلكترونية التي تنتشركالفطر، والتي يهتم أصحابها بالربح السريع أو إثبات الوجود. ويختم ريفي: “كلنا نعلم بأن مهنة البحث عن المتاعب هي مهنة تراكمية، ولا أظن بأنه من لم يكن جادًا فيها يمكنه الاستمرار“.

وبالحديث عن الضّمانات الصّحيّة والاجتماعيّة للصحافيين، فهذا الأمر شبه منعدم  أولاً لعدم توفرالإمكانات المالية، وثانيًا بسبب توجه بعض المواقع الإلكترونية نحوموضةتوظيف الإعلاميّينعلى القطعةما يشكل بابًا للانسحاب من التّوظيف الكامل،وبالتّالي الهروب من تلك الضّمانات.

ويقول الصحافي وسيم أدهمي: “على الزملاءالصحافيين اللجوء إلى الوسائل القانونية لحماية حقوقهم والدفاع عن أنفسهم في حالة تعرضهم للتهديد أوالتضييق، ويجب عليهم التعرف على القوانين المتعلقة بحرية التعبير، وحق الوصول إلى المعلومات واستخدامها بذكاء وفعالية، ويضيف،على الرغم من التحديات التي يواجهها الصحافيون، إلا أنهم يمتلكون وسائل عديدة لضمان حقوقهم والدفاع عن استقلاليتهم المهنية، من خلال التنظيم والتضامن لتحقيق التغييرات اللازمة في البيئة الإعلامية وتفعيل دورهم في تعزيز الحرية الاعلامية“.

الضغوط والرقابة

يتعرض الإعلام الرقمي في الشمال اللبناني للعديد من الضغوط السياسية من جهات تسعى للتأثير على المحتوى وتوجيهه. هذه الضغوط قد تؤدي إلى فرض رقابة على الصحافيين والمحررين، مما يحد من حرية التعبير ويؤثر على مصداقية الإعلام.

وعلى الرغم من أن لبنان يُعرف بحرياته الإعلامية مقارنة بمحيطه، ولكن هذاظاهريًا، فالحريات الإعلامية بالنسبة للعاملين في حقل الإعلام الرقمي هي نسبية وانتقائيّة للغاية، وهناك خطوط مرسومة للإعلام لا يجوزالاقتراب منها، بل ولا مجرّد التّفكير بها. فالأمن، والشّخصيات السّياسيّة، وبعض التّابوهات المجتمعيّة لا يجوز المساس بها، مما يُكبّل عمل الصحافي بشكل عام وخصوصًا العاملين في الإعلام الرقميّ لعدم توفّرتشريعات وقوانين تحفظ حقوقهم كما هو متوفّر لغيرهم في وسائل الإعلام التقليدية. وبالتالي، يواجه الإعلام الرّقمي في الشّمال اللبناني ضغوطًا من الجّهات السّياسيّة والأمنيّة المختلفة، التي قد تحاول التّأثير على المحتوى التّحريري والتّحكم فيه.

وفي هذا السياق يقول الصحافي عثمان هوشر: “لا شك أننا كصحافيين عاملين على الأرض نتعرض لضغوط سياسية شتى، تتعلق بشكل أساسي بعدم تعاون المكاتب السياسية مع الصحافيين غير المنتمين لها، إضافة إلى التصنيف المُسبق للصحافيين، والتعامل معهم على هذا الأساس.

الأمن الشّخصي للصّحافيّين

يتعرّض الصّحافيون والعاملون في وسائل الإعلام الرّقمية لمخاطر أمنيّة بسبب مواقفهم أو تغطيتهم لأحداث معينة، ممّا يحدّ من حرّيتهم واستقلاليتهم، وبرزت هذه المخاطربشكل كبير مع اندلاع الحرب على الحدود الجنوبية منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث تعرض الكثيرمن الصحافيين للاعتداءت الإسرائيلية أثناء أدائهم عملهم.

تقول رشا الطويل (اسم مستعار)، وهي صحافية تعمل في موقع إلكترونيّ إخباري، أنّها وأثناء توجّهها لتغطية حدث أمنيّ  تنصّل رئيس التّحرير من أيّ مسؤوليّة تجاه في حال أصابها أي ضرر أثناء العمل.  وبدوره الصحافي فوّاز كمال حدث معه الشيء نفسه أثناء ذهابه لتغطية المعارك في باب التّبانة بطرابلس حيث قال له رئيس التحرير: “أنا غير مسؤول عنك وعما تقوم به، ومع ذلك، تابع كمال عمله وتمّ نشر مادّته على الموقع.

إضافة لذلك، بالكاد ترى هؤلاء الصّحافيين يُطبّقون قواعدالسّلامة الجسديّة مثل ارتدائهم للخوذات أو السترات الواقية من الرّصاص والشّظايا، لعدم إمكانيّة توفيرها لهم من الموقع الذّي يعملون فيه بسبب نقص الإمكانيّات المادّيّة أو إهمالاً من إدارتهم.

بدورها الصحافية قمرالأحمد التي تعمل لأحد المواقع الإخبارية في الشمال، وعند سؤالها عن المضايقات التي تتعرض لها أثناء ممارسة عملها، تشرح أنها تأخذ شكل الاستقواء أو حتى الإستهانة بقدراتها كونها فتاة، وأنها لا يجب أن تخوض مضمار العمل الصحافي وخاصة الميداني وتحديدًا أثناء الأحداث الأمنية.

شكل حراك 17 تشرين 2019 بالنسبة للأحمد نقطة تحول في عملها الصحافي، وتقول: “صحيح أن بداية تغطيتي لأحداث الثورة في طرابلس وخصوصًا في ساحة النور كانت صعبة وشبه مستحيلة، ولكنني استطعت أن أكون جزءًا من الحدث الإعلامي مع زميلاتي وزملائي في تغطيتنا التظاهرات والوقفات وغيرها“.

أما الصحافي عثمان هوشر فيقول: هناك تدني لمردودعمل الصحافة مقارنة بما يقدمه الصحافي على الأرض وبالمقارنة مع المهن الأخرى، مما يجعل مهنة الصحافةمهنة البحث عن القرشبشكل أو بآخر، ناهيك عن غياب أي شكل من أشكال التغطية الصحية رغم ما يتعرض له الصحافي من أخطار على اكثر من مستوى.

انتشار الأخبار الكاذبة والمضلّلة

مع تزايد الاعتماد على وسائل التّواصل الاجتماعيّ كمصدر للأخبار وتحوّل كل مواطن يحمل هاتفًا إلى مراسل أو صانع للإخبار، أصبحت الأخبار الكاذبة والمعلومات المضلّلة تشكل تحديًا كبيرًا. وهذا الانتشار السّريع للأخبار غير الموثوقة يُضعف ثقة الجمهور في الإعلام الرّقمي ويُصعّب مهمّة التّحقّق من صحّة المعلومات.

وتتفاقم المشكلة بنقص الكفاءات المهنيّة والتّدريب لدى الصحافيين العاملين في الحقل الرّقميّ، وحتى المؤسسات نفسها تفتقر إلى الخبرات التي تُدرب على التّعامل معتقنيات الإعلام الرّقمي والصّحافة الاستقصائيّة.

وتقول الصحافية روعة الرفاعيفيما يخص الأخبار الكاذبة فهي باتت كثيرة في زمن شبكات التواصل الاجتماعي والسرعة في نقل الخبر، لكن يمكن التمييز بين الخبر الكاذب والصحيح من خلال المصدر وطريقة الكتابة والخبرة التي نكتسبها خلال العمل، وبالطبع لا بد من التأكد من صحة الخبر قبل نشره، لا سيّما في ظل الأوضاع الراهنة التي يتخبط بها البلد، ويمكن لأي خبر كاذب أن يُحدث فتنة، والمهنية الصحافية تقتضي توخي الدقة، وهذا ما لا يتقنه سوى الصحافي المُتمرس في مهنته،والذي يعتبرها رسالة وليس مصدر للعيش فقط“.

لهوشر وجهة نظر في مسألة التعامل مع الأخبار الكاذبة بحيث يقول: “على مستوىطوفانالأخبار الكاذبة في زمن الإعلام الرقمي، فإنه أصبح من الصعب التأكد من مصداقيتها بشكل كامل استنادًا للامكانيات الذاتية فقط، ولكن لا بد من الرجوع لمصدرها ان وجد، او لوسائل إعلامية ذات مصداقية عالية، أو ببساطة، بتجاهل الخبرالمشكوك به في حال لم يكن ذا أهمية“.

وفي السياق يشرح رئيس تحرير موقع الرائد الإخباريرائد الخطيب أن المواقع الالكترونية الإخبارية غير قادرةعلى التحقق من الأخبار، وهي بحاجة الى دورات تدريب خاصة حول كيفية التفريق بين المصدر الاخباري الصحيح والمصدر المزيف. وبمعظمها وبسبب النقص الوظيفي تعتمد على الوكالة الوطنية للإعلام والمواقع الإخبارية العربية.

أما رئيس تحرير موقع الفجر الجديد محمد سلطان فيتحدث عن المعلومات والأخبار المضللة في وسائل الإعلام الإلكتروني بالقول: “تحتوي مواقع الانترنت على كم هائل من المعلومات أغلبها تمت صياغتها بحسب رؤية خاصة للكاتب، وهي تعتبر مضللة لأنها موجهة ولا تعتمد على أسس صحيحة، وهي أشبه بالاشاعة أو ما يطلق عليه الطابور الخامس“.

ويتابع سلطان أن العامل في حقل الصحافة الالكترونية أوالباحث، عليه أن يملك الحد الادنى من الثقافة التي تخوله أن يحكم على الامور بشكل صحيح وان لا يعتمد على مصدر واحد لتقصي المعلومات حتى لا يكون تحت سيطرة المضللين.

التحديات القانونية

يواجه الإعلام الرقمي تحديات قانونية أيضًا قد تمنعه من الحصول على الخدمات والمنافع التي يحصل عليها غيره، ويذكر أحد الصحافيين (لم يرغب في ذكر اسمه) عندما طلب من المستشار الإعلامي لإحدى البلديات الكبرى في الشمال التعامل مع المواقع الإخباريةبالمساواةمن حيث التبرعات، التي تقدمها تلك البلدية للإعلام المرئي والمقروء والمسموع، لكن الجواب دائمًا ما يكون بأنه لايوجد قانون من الوزارة المختصة يلحظ الإعلام الرقمي، وهذا حال باقي المؤسسات الرسمية وحتى الخاصة من نقابات وغيرها.

وحول هذه النقطة يؤكد رئيس تحرير موقعالوفاق الاخباريرامز فري بأنّ التحديات القانونية كثيرة في هذا المجال، لأن امتلاك موقع اخباري أو العمل بموقع اخباري لا يعطي الشخص صفة صحافي بشكل قانوني،لأن من يُطلق عليه هذه الصفة يجب أن يكون منتسبا لإحدى النقابتين، اما نقابة محرري الصحافة اللبنانية أونقابة الصحافة اللبنانية، وذلك أسوة بباقي النقابات فلا يمكن لأحد استعمال صفة محامي أو طبيب أو مهندس او ماشابه الا اذا كان منتسبا للنقابة المعنية. وعندما يواجه العامل في موقع اخباري الكتروني اي مشكلة قانونية يصطدم بهذه المعضلة، إذا لم يكن يحمل بطاقة صحافية صادرة عن إحدى النقابتين الاساسيتين.

ويلفت فري الى انالعلم والخبر من المجلس الوطني للإعلام هو ليس بمثابة ترخيص قانوني بل هو نوع من التنظيم وجمع داتا عن كافة المواقع العاملة في هذا المجال، لمعرفة أصحابها ورؤساء تحريرها ومواقعها الجغرافية. والعلم والخبر هنا هو بمثابة ترخيص معنوي، وهناك وجهات نظر متعددة في هذا المجال، الأمر الذي يتطلب قانونا عصريا وحديثا يتناول الإعلام بكافة أنواعه من المرئي والمسموع والمكتوب والإلكتروني. بالرغم من أن وجهة نظري في هذا المجال أنه من الصعب الوصول إلى قانون للإعلام شامل وعادل، لأن التطور السريع في مجال تقنيات الإعلام لن تستطيع القوانين مجاراته واللحاق به بسهولة“.

ختامًا، فإن النهوض بالإعلام الرقمي في طرابلس والشمال اللبناني يتطلب تضافرا في الجهود بين جميع الأطراف المعنية، بدءًا من الصحافيين أنفسهم، الذين يجب عليهم السعي لتنظيم مهنتهم وحماية حقوقهم، مرورًا بالمؤسسات الإعلامية، التي ينبغي أن تتبنى معايير مهنية وأخلاقية عالية، وصولاً إلى الدولة التي يجب أن تعمل على توفير بيئة قانونية وتنظيمية داعمة لهذاالقطاع الحيوي. وفقط من خلال هذه الجهود المتكاملة يمكن مواجهة التحديات المعقدة التي تعترض الإعلام الرقمي، وضمان دوره الفاعل في نقل الحقيقة وتعزيزالحرية الإعلامية في لبنان.

 


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal