تتمثل الفجوة الرقميّة في لبنان باخفاق الحكومات المتعاقبة في مواكبة تطورات العصر التكنولوجية وتظهر من خلال تفاوت قدرة اللبنانيين في الوصول إلى التقنيات الحديثة واستخدامها، وهجرة العقول البشريّة “المعلوماتية”، وغياب الوعي بأهمية التكنولوجيا المعرفيّة، الامر الذي أرخى تأثيرات سلبية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبنان بعيدًا عن تطبيق وتنفيذ أيّة استراتيجيات جدّية للمعالجة من قبل الدولة التي تصدر المواقف وتضع الخطط على الورق وتهمل تطوير البنى التحتية التكنولوجية وتوفّر الإنترنت ذو السرعة السيّئة والاتصال غير المستقر والأمان السيبيراني الهشّ. كما تتجلى الفجوة الرقميّة بين اللبنانيين من خلال اتساع الهوّة بين مستخدمي تقنيات الرقمنة في المناطق الريفيّة والأخرى المدنيّة من جهة وتفاوت الطبقات الاجتماعية من جهة أخرى، نتيجة تطبيق السياسات المركزيّة وزيادة الازمات الاقتصادية التي شهدتها البلاد في السنوات الماضية، حيث تدنّت الصيانة في القرى البعيدة عن المدن خاصة وارتفعت معدلات الفئات ذات الدخل المنخفض التي عجزت عن تحمّل تكاليف الأجهزة التكنولوجية والاشتراكات الشهرية للإنترنت. وتظهر الفجوة ايضًا في نقص المهارات الرقميّة لعدد كبير من متوسطي الاعمار وكبار السن مقارنة مع الجيل الحديث وخبراء التكنولوجيا والفنيين الذي يتابعون الابتكارات العالمية ويستفيدون من التقنيات المتطورة في التعليم والعمل.
انّ اتساع إطار الفجوة الرقميّة في لبنان يؤثّر سلبًا على الاقتصاد اللبناني بشكل عام من خلال تقليل فرص النمو والابتكار في عصر الثورة الصناعية الرابعة، حيث تفشل الشركات الصغيرة والمتوسطة مثلًا في الوصول الى الخدمات الرقميّة بكفاءة ومواكبة التحديثات وتوسيع امكاناتها والمنافسة او الدخول الى السوق العالمية؛ كما تتراجع نسب المواطنين الذين يبحثون عن فرص عمل في سوق عصري يتجه بشكل متزايد نحو الرقمنة. وفي منحى آخر، يؤدي افتقار الوصول إلى التكنولوجيا الى تفاوت الفرص التعليمية للطلاب الذين لا يستطيعون الوصول إلى الموارد عبر الإنترنت ويواجهون التحديات في التحصيل الأكاديمي والانخراط في سوق العمل، بل تصبح هذه الفئات مهمّشة ومعزولة عن المشاركة الفعّالة في المجتمع الرقمي المعاصر، ولهذا السبب، أطلق البنك الدولي وForward MENA في عام 2022 مبادرة تعزيز المهارات في لبنان (Skilling-Up Lebanon SUL). وهو برنامج مبتكر لتنمية المهارات يقوده القطاع الخاص ويهدف إلى إلهام الشباب في لبنان وتدريبهم ودعمهم في اكتساب المهارات الرقمية ذات الصلة بالأسواق.
يمكن للدولة اللبنانيّة أن تردم الهوّة الرقميّة بين المواطنين من خلال تطبيق الاستراتيجيات العديدة التي تضعها لأجل اللحاق بقطار التكنولوجيا العالمي الذي يزيد سرعته بشكل مخيف في الآونة الأخيرة، وتتحدد المسألة ايضًا في انفتاح القطاع العام على الشركات الخاصة في لبنان التي يمكن ان تستثمر مع الدولة في تحسين البنى التحتية للاتصالات، لأجل ضمان وصول الإنترنت العالي السرعة وبأسعار معقولة لجميع المواطنين بما في ذلك المناطق الريفية والنائية، وتعزيز الوعي الرقمي وتقديم التدريب على المهارات الرقميّة للفئات المهمّشة، اذ تمثّل الفجوة الرقميّة في لبنان تحديًا كبيرًا يتطلب تعاونًا مشتركًا بين الحكومة والقطاع الخاص، من خلال الاستثمار في البنى التكنولوجيّة والتدريب وتعزيز التواصل الرقمي الآمن ودعم الابتكار، ويمكن للبنان تقليل هذه الفجوة والمضي قدمًا نحو مستقبل رقمي شامل ومستدام اذا ارادت القيادة الحاكمة ان تخلّص البلد من كبوته وركوده الشامل والمتصل بالذهنية “المحسوباتية” التي دمّرته. وعليه، يُعتبر القضاء على الفجوة الرقميّة بين اللبنانيين أمرًا بالغ الأهمية لتمهيد الطريق أمام تطبيق وتنفيذ “الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي في لبنان 20-30” التي تهدف الى تحقيق بيئة رقميّة محفّزة للنمو الاقتصادي المستدام والتطوير الاجتماعي الشامل، وتوفير عدالة رقميّة عامة من خلال تعزيز المساواة والشمولية وتحسين الخدمات العامة وتفعيل التعليم والتدريب للقوى العاملة، الامر الذي ينعكس ايجابًا في الوصول الى الحكومة الالكترونية والحوكمة الرشيدة والحد من البيروقراطية المعرقِلة، وزيادة الشفافية والكفاءة وثقة المواطنين في المؤسسات الحكومية التي يمكن أن تستخدم حينها البيانات الضخمة والتحليلات لأجل تحسين السياسات العامة والقدرة على التعاون الدولي ومواجهة تحديات التحوّل الرقمي المعاصر.
وبكلمة أخيرة نقول انّ تقليص الفجوة الرقميّة في لبنان لن يسهم فقط في تحسين جودة حياة المواطنين وتعليمهم فحسب، بل يزيد من القدرة التنافسية للاقتصاد اللبناني على الساحة العالمية في زمن عقد الاتفاقات الدولية بعد إطلاق مبادرة “الحزام والطريق” عام 2013، الهادفة اساسًا إلى تفعيل التعاون التجاري وتعزيز مختلف البنى التحتية بين الدول في قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، من خلال تحديد الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الرقمي/الحديث ورسم طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين.
الكاتبة: البروفيسورة وديعة الأميوني أستاذة جامعيّة وباحثة اجتماعيّة
Related Posts