يطرح أحد الحكماء مقولة واقعية مفادها أن الاختلاف والخلاف من سنن الحياة والخلق، ومنها اختلاف آيات الكون وسائر المخلوقات من الجماد والحيوان بما لا يكاد عقل إنسان أن يحصي عناصره وتجلّياته، أما الاختلاف بين البشر فيكون في ألوانهم وألسنتهم وانتشارهم في الأرض، فيما يظهر الخلاف غالباً في الاعتقادات الدينية والانتماءات السياسية والعادات الاجتماعية والآثار الثقافية، ومصداق هذا المنحى قول الله تعالى: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك..”، فالمشكلة إذن ليس في أصل وجود الخلاف والاختلاف بل هي في جعل الخلاف سنّة الناس، وهذا لا يدخل في إطار توق الخلق إلى دائرة الكمال.
لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار وجود الخلافات بين أتباع العقائد منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، فضلاً عن الانقسامات بين أتباع النظريات السياسية والفلسفية، وهذه نتيجة طبيعية نظراً لارتباطها بالإنسان الذي يتفاعل مع القضايا التي يؤمن بها ويسعى إلى تعميمها بين البشر، حتى وصلت هذه الخلافات لتقع بين أبناء المعتقد الواحد، المسيحيين والمسلمين على حد سواء، فانتشروا بين مدارس فكرية ومبانٍ عقائدية متنوّعة، لذا فإن إزالة أصل الخلاف لا يندرج هنا في إطار السعي الواقعي، ولكنّ في الوقت نفسه لا يسوّغ جعل الخلاف سبباً للبغضاء والتناحر، أو تحويله إلى بؤر للفتنة والتقاتل، فيفقد البشر صفاتهم الإنسانية التي كرّمهم بها الله.
وربطاً بما سبق نجد أن الخلاف يقع دوماً بين متضادين وأبرز مثال على ذلك: الحق والباطل، الخير والشر، العدل والظلم، وغير ذلك من القيم التي تضع الإنسان بين حدّين متقابلين، فإما أن يكون نموذجاً مضيئاً أو أن يكون مظلماً، والنقيضان لا يجتمعان.. من هنا ندخل إلى مناسبة عاشوراء التي يحييها المسلمون في كل عام منذ 1385 عاماً، من خلال استحضار واقعة كربلاء، وهي ليست مجرد واقعة حربية غير متكافئة قُتل فيها ابن بنت رسول الله (ص) الامام الحسين (رض) وأصحابه على يد يزيد بن معاوية في العام 61 للهجرة، فإن سائر علماء المسلمين وغير المسلمين والمفكّرين والكتّاب والمؤرخين يجمعون على أنها محطة تاريخية تستبطن دروساً عميقة تترجم الصراع الأزلي بين قيم الحق وقيم الباطل، وأنها جاءت تحت راية “طلب الإصلاح” في الأمّة.
يعدّ الإمام الحسين (رض) عند المسلمين، بما يمثّله من امتداد نَسَبي وروحي ورسالي متّصل بالنبي محمد (ص)، محطة التقاء لا تشوبها الاختلافات المرتبطة بالرؤية الدينية – السياسية التي تثار حول الخلافة، ولا تقرب بأي معيار إلى الانتماء المذهبي الشيعي أو السنّي، كما لا صلة لها بأي اختلاف في اللون واللغة والعرق والتبعية الجغرافية، فهو سبط النبي العربي الذي جاء بلسان عربي وقرآن عربي ليكون منارة حق وهدى لكل الخلق، وعبّر عن هذا الامتداد بقوله: “جئت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي”، وهي أمّة الإسلام المعبّرة عن رسالة الله للبشرية جمعاء، وليست أمّة قبيلة أو طائفة أو زعيم أو جهة سياسية أو بلد ما، فاندفع الحسين (رض) على قلة العدد والعدّة والناصر إلى معركة يعلم نتائجها سلفاً، واتخذ الخيار الذي يتّصل بالقيم المعنوية ليقينه بأن القيم المادية تزول، وبأنها ستشكّل بصحتها وكمالها قاعدة يتّخذها كل مظلوم للثورة على الظالم، ويعتنقها كل حرّ للقيام على المستبد، وهذا ليس مقتصراً على المسلمين فقط بل على كل إنسان يعتقد بالقيم الإنسانية السامية.
لم يكن الإمام الحسين (رض) شيعياً أو سنّياً حين قام بثورته، وهو حين رفع سيف الحق لم ينادِ بعروبته أو فارسيته أو بقبليته وقرشيته أو حتى بهاشميته، ولم يختر أصحابه الذين استشهدوا معه وفق معايير ضيّقة عرقية أو طائفية، وهو الذي خيّرهم ليلة الواقعة النهائية في العاشر من محّرم بقوله: “ألا وإنّي أظنُ يَومنا من هؤلاءِ الأعداء غداً إلّا وإنّي قد أذنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذمام، هذا الّليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جَمَلاً”، ولكنهم اتّخذوا قرارهم وثبتوا معه لنصرة الحق، على الرغم من يقينهم بأنهم سيلاقوا حتفهم لا محالة، واختاروا بين حياة الذل أو موت الكرامة.
إن رسالة عاشوراء تسمو فوق الاختلافات وتعلو على الخلافات، ولكن ما يدعو للأسف أن البعض من أصحاب النظرة الضيّقة يصرّون على لصق المناسبة حصراً بالمسلمين الشيعة، مع أن التاريخ الإسلامي في شتى العصور منذ واقعة كربلاء حتى اليوم يشهد بأن المسلمين السنّة بعلمائهم وشعوبهم أسهموا بشكل جذري في إبقاء هذه المناسبة حيّة على الرغم من محاولات تغريبها في فترات زمنية محدّدة ومحوها من ضمائر المسلمين، فبقيت كربلاء شعلة مضيئة تلهم الثوار والمقاومين والأحرار في شتى أنحاء الأرض ولدى كثير من الشعوب التي لا تنتمي للإسلام كدين وعقيدة، وتأسيساً على هذه الحقيقة نشأ مصطلح “الخيار الكربلائي”.
إن مفكّري الشرق والغرب من المسلمين وغير المسلمين الذين وقفوا حائرين أمام سرّ خلود “ملحمة كربلاء” لم يجدوا الجواب عند الشيعة فقط، بل انطلقوا من تحليل الخلفيات والمرتكزات التي دفعت بالحسين (رض) لاتخاذ قراره الحاسم، وقرأوا مجريات التاريخ الذي تلت الواقعة، وخلصوا إلى أن السرّ يكمن في جوهر الهدف الذي نادى به، وهو لا ينحصر بزمن معيّن أو بقعة جغرافية أو أقوام محدّدة، بل برسالة حياة تحفر عميقاً في الوجدان الإنساني وتترجم مبدأ الوجود القائم على الإصلاح والاستقامة، وبذلك يصبح الاعتقاد بهذه المدرسة هو اعتقاد بخلفياتها وأهدافها الحقّة، ولذلك فمن الظلم اعتبار الشيعة العرب أو الفرس أو مهما كانت أعراقهم وجنسياتهم هم الوحيدون الذين أيقنوا رسالة الحسين (رض) وعاشوراء، ومن الظلم تقزيم هذه الرسالة وحشرها في نطاقات طائفية بغيضة، وتجييرها سياسياً لهذه الجهة أو تلك أو لهذا البلد أو ذاك.
إن أي تحوير لرسالة عاشوراء في هذه المرحلة المصيرية من عمر الأمّة العربية والإسلامية، خصوصا مع ما يجري على أرض فلسطين المحتلة وجنوب لبنان من هجمة صهيونية – غربية، واللعب على الوتر الطائفي من زاوية شيعية أو سنيّة، يصبّ في مصلحة تقوية عدو الأمّة وإضعافها وشرذمة صفوفها أكثر، فالغرب و”إسرائيل” اللذان ينظران إلى هذه الأمّة انطلاقاً من رؤيتهما في كيفية تحقيق مصالحهما، لا يمّيزان بين شيعي وسنّي إلا في سياق بث عناصر التفرقة وبذر عوامل الفتنة، فلماذا يجعل البعض نفسه أداة تخريب ويردّد المقولات الغربية والصهيونية بدون تدبّر أو تعقّل؟! ولماذا يشكّك هذا البعض بمواقف الوحدة الإسلامية في محضر الامام الحسين (رض) بذريعة التبعية والذمّية الشيعية أو الفارسية؟! رحم الله الشيخ الدكتور صبحي الصالح الذي قال: “لا عزّة للأمة إلا بوحدتها ولا وحدة لها اليوم إلا بإحساسها بالخطر الواحد المشترك”، فهل نشعر بهذا الخطر؟!
Related Posts