أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة، في مقر المجلس، بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها:
“قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
تتحدث الآية عن أهم مبدأ من المبادئ الاسلامية وهو مبدأ العدالة مُحمّلاً المسؤولية في تطبيقها للمسلمين، لأن الخطاب فيها مُوجَّه للمؤمنين بمعناه الخاص، مشدداً عليهم القيام بها، مُفسّراً القيام لله بها { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ} للتعبير عن الأهمية التي أولاها الله سبحانه وتعالى لها، فهم مأمورون بالشهادة لله بإقامة القسط والعدل، وهم مطالبون بجعل العدل عملاً حاضراً ومحققاً في حياتهم وهي التي كانت الهدف من ثورة الامام الحسين (ع)”.
أضاف: “وحينما نتكلم عن الثورة الحسينية لا بدّ أن نتحدث عن المقصود من الثورة، الثورة هي حالة اعتراضية من قوى سياسية أو اجتماعية على السلطة القائمة لغايات وأهداف اجتماعية أو سياسية أو اجتماعية سياسية عامة إما معارضة لطبيعة النظام والاسس التي يقوم عليها أي بنيوية عقدية أو لمخالفة الاسس التي قام عليها لتكون تعبيراً عن حالة اجتماعية مطلبية ناتجة عن سوء الادارة أو فسادها أو بسبب السياسات المتبعة من قِبَلِها شكَّلت أزمة للمجتمع تعجز السلطة السياسية عن إيجاد حلول لها أو تكون قادرة على إيجاد الحلول البديلة، ولأنها تتطلب تخلّي الطبقة الحاكمة عن بعض منافعها وتتمسّك بها وترفض التنازل عنها ما يدفع بالمعارضين أو المتضررين إلى رفع الصوت واستخدام الحركة السلبية سلمية تارة أو عنفية أخرى يضطر معها النظام للرضوخ والاستجابة لمطالب الثوار ورغباتهم حين تكون المطالب إصلاحية أو تدفع الثورة إلى اقتلاعه حين تكون المطالب تغييرية ولا يكون النظام قابلاً معها للإصلاح وقد تكون حركة الاعتراض حركة تمرد”.
واشار الى انه “لتحديد المراد من حركة التمرّد يجب أن نُحدّد أولاً المعايير التي يمكننا على أساسها تصنيف الحركة أنها إصلاحية أو تغييرية أو حركة تمرّد، أما المعيار الذي يجعل تصنيف الحركة حركة إصلاحية أن تكون المبادئ التي قام عليها النظام متسالَماً عليها من قبل المجتمع ويتجاوز النظام هذه المبادئ، ومن المفروض أن اهم المبادئ التي يجب أن تُشكّل أولى مرتكزات أي نظام اجتماعي هي كرامة الانسان بما هو إنسان وليس الجماعة التي ينتمي اليها، لأنها حين تقوم على أساس الجماعة التي ينتمي إليها تبدأ المشكلة في التمييز بين إنسان وآخر ومجموعة واخرى، لأن أهم وظائف النظام تحقيق العدالة الاجتماعية التي لا يمكن تحقيقها والحفاظ عليها بدون أن يتمتع أفراد المجتمع بحق حرية الرأي والاعتراض والمساواة في الحقوق والواجبات ومن دون تمييز، وأن تكون الكفاءة بمعناها الاشمل هي المعيار المناسب في الاختيار لمواقع المسؤولية في أي مرتبة من مراتبها. وحين يقيم المجتمع نظامه الاجتماعي على أساس هذه القيم ويخل النظام بإحداها أو بها جميعاً تكون حركة المعارضة حركة إصلاحية تهدف إلى إلزام النظام بالعودة إلى تطبيق القواعد التي أخلَّ بها”.
وقال: “أما اذا كان النظام مُحتاجاً إلى إصلاح، ولم يعد يفي بتحقيق أغراض المجتمع ومصالحه، وأصرَّ المنتفعون منه على التمسّك به لأن التغيير بقواعد الحكم سيضر بمصالحهم ومنافعهم، فالحركة المواجِهة ستكون حركة تغييرية والثورة ستكون تغييرية، وأما حركة التمرّد فهي التي لا تتوفّر لها أي واحد من هذين الشرطين من الخلل في النظام، فلا النظام خالف القواعد التي تسالَم المجتمع عليها، كما أن النظام القائم يفي بتحقيق أهداف المجتمع ولم يتبيّن وجود خلل يحتاج معه إلى تعديل أو إصلاح، فهم يخرجون على إرادة المجتمع بعد أن توافقوا معه وأقروا النظام، فهي حركة لا تنطلق من أُسس إجتماعية عامة وإنما من منطلقات ومنافع خاصة تتمرد على إرادة الأمة لأهداف ومنافع خاصة وغير مشروعة، فأيّ من تحت هذه التصنيفات يمكننا أن ندرج ثورة الامام الحسين (ع)؟. وهل هي حركة تمرد في مواجهة النظام والمجتمع كما ردَّد اتباع السلطة القائمة أو أنها حركة إصلاحية هدفت إلى إصلاح خلل في النظام، أو حركة تغييرية هدفت إلى تغيير النظام القائم لأنه شَكَّل حالة إنقلابية على المبادئ والاسس والمفاهيم والقيم التي تبناها وقام عليها المجتمع الإسلامي”.
وتابع: “فما هي المبررات التي دعت الامام الحسين (ع) إلى القيام بهذه الحركة، وهل تنطبق عليها معايير الثورة؟ كما ذكرت أن السلطة وازلامها أشاعوا أنه نزاع على السلطة استمراراً لما قامت به من التشويه لموقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في مواجهة معاوية، مع أن معاوية هو من بادر إلى مواجهة الشرعية التي يُمثّلها أمير المؤمنين (ع)، وهذه الدعاية الكاذبة والمشوَّهة استخدمتها السلطة مع الامام الحسين (ع) ووسمتها بأنها حركة متمردة على السلطة الشرعية الغاية منها الوصول الى السلطة، لكن هذه الدعاية لم تلقَ قبولاً من المسلمين إلا من بعض الأفراد النواصب الحاقدين على أهل البيت (ع) “.
واردف: “واذا انتفى بإجماع المسلمين تصنيفها بحركة تمرد تعيَّن إما ان تكون حركة اصلاحية او تغييرية، وصحَّ أن تكون ثورة لأنها تحمل كل مواصفاتها من مطالب عامة تنطلق من المباديء التي تسالَم عليها المسلمون وأخلّت بها السلطة الحاكمة، ومنها جعل الحكم أمراً وراثياً قيصرياً مستنداً الى الفرض والقوة، أضف إلى ذلك أنه لم يكن يؤمن بالاسلام وهو ما صرَّح به نفسه من أن قتله للامام الحسين (ع) إنما كان انتقاماً وثأراً لقتلاه الكفرة يوم بدر حيث قال: “يوما بيوم بدر”.
ويشهد شعر يزيد بعد قتله الحسين حين انشد:
ليت أشياخي ببدر شَهدوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ من وقع الأسل
قد قتلنا القَرْمَ من سَادَاتِكُمْ وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تُشل
لست من خندفَ إن لم أنتقم من بنى أحمد ما كان فعل
لعبت هاشمُ بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحي نزل
حيث أفصح عن الانقلاب الذي أحدثه الامويون على الأسس والمبادىء التي قام عليها البناء والاجتماع السياسي للأمة وقد أوضح الامام الحسين (ع) ذلك في بيان الثورة التي أعلنها حيث قال:
“أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، والْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبِ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً، والْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً”.
وهذا ما يوضّح لنا ان ثورة الامام الحسين (ع) لم تكن حركة اصلاحية وإنما حركة تغييرية شاملة ضد النظام الانقلابي اللاشرعي الذي أحدثه الامويون، إذ لم يُبق الامويون على شيء من المبادئء التي يقوم عليها الاجتماع السياسي للإسلام، وما تلاه من أعمال وارتكابات مشينة يندى لها الجبين في هدمه للكعبة الشريفة وإباحته لمدينة رسول الله (ص) لجلاوزته وجرائم القتل التي مورست بحق أهلها وإجبارهم على مبايعة يزيد على انهم عبيد له، وهذا غيض من فيض الجرائم التي ارتكبت بحق المسلمين والأمة والتي تُعتَبر مرحلة سوداء في تاريخها أعطت انطباعاً مشوَّهاً عن المجتمع الاسلامي ورسالته أمام العالم لولا وجود ثورة الامام الحسين (ع) وثورات العلويين في ما بعد التي يعود لها الفضل في رسم الصورة المشرقة للاسلام الحقيقي الذي تَمثَّل بأهل بيت النبوة، إذ لولا هذه الثورات لكانت الصورة للاسلام هي ما ارتكبته السلطة الاموية والعباسية من جرائم التي استطاعت أن تُروّض الأمة بالقوة والقهر، ولم يجرؤ أحد على الاعتراض عليها او الوقوف في وجهها، وهذا غيض من فيض من جرائم السلطة بحق الإسلام والمسلمين ملئت بها صفحات الكتب للمحققين ممن اعتنى بهذه الصفحات من تاريخ المسلمين لا يتسع لها الذكر في خطبة جمعة”.
وأعلن “اننا حين نُجدّد في كل عام هذه الذكرى إحياء لها نُجدّد معها الصلة والعهد مع الإسلام المحمدي الأصيل، ونحيي معها مبادئها لنتخذها نبراساً لنا في مواجهة أعداء الإنسان والقيم والحياة من قوى الظلام والظلم والشر والعدوان ونتخذ من دروسها عبرةً وزاداً يمدّنا بالقوة والأمل بالنصر نستسهل معها الصعاب، لأن الكرامة أغلى من كل ثمن ومن كل تضحية، فهو (ع) الذي قال: ” فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً، والْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً”.
“ألا وإنَّ الدَّعيَّ ابنَ الدَّعيْ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيَنِ: بَيْنَ السَلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَهَيْهاتَ مِنّا الذِّلَّةُ، يأبَى اللهُ ذلِكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنوُنَ، وحُجُورٌ طابَتْ وَأنُوفٌ حَميَّةٌ ونُفُوسٌ أبيَّةٌ، أنْ نُؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الكِرام”.
وقال الشيخ الخطيب: “ونحن اليوم نستمد هذه القيم في معركتنا مع العدو الذي يمارس نفس السياسة اليزيدية من اغتصاب للحق وممارسة للجرائم فيما يمارسه من القتل والابادة ومنع الماء والدواء والطعام عن أطفال الشعب الفلسطيني الأبي في غزة، يُخيّرهم بين السلة والذلة لإجبارهم على الاستسلام لإرادته، ولكنه لم يلقَ منهم سوى العزيمة على المواجهة والصبر على التضحيات والإصرار على النصر. فتَبّاً لهذا العالم الظالم الذي وهو يشيح بعينيه عما يجري من إبادة للأطفال والنساء يزوّد العدو الصهيوني بالاسلحة والصواريخ والطائرات وآلة القتل”.
أضاف: “ألا مِن ناصر في هذا العالم ينصر الشعب الفلسطيني ليدفع عنه هذه المجازر الرهيبة؟؟ ليس غريباً عن الغرب الذي مارس الحرق لليهود في أفرانه أن يستخدمهم في تنفيذ جرائمه بحق شعوبنا وبحق أطفال فلسطين ونسائها وشيوخها. وهل عميت وصَمّت آذان العرب وعيونهم عما يجري على إخوانهم في فلسطين ليسجلوا على أنفسهم مرة أخرى بعد كربلاء كربلاء أخرى في فلسطين وعاراً آخر، فالشعب الفلسطيني يعيش عاشوراء جديدة فيما المسلمون والعرب يتفرّجون، فأين نخوتكم إن كنتم عرباً كما تزعمون؟ فمن ننخي؟ هل نفزع إلى الأعداء نسترحمهم؟
رحم الله أبا فراس القائل: يا للرجالِ! أما للهِ منتصرٌ من الطّغاة ِ؟ أمَا للدّينِ مُنتَقِمُ؟!”.
وختم الخطيب: “السلام على الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أنصار الحسين، السلام على شعبنا في جبل عامل الذي ورث شجاعة علي والحسين، السلام على غزة وفلسطين وشعبها الأبي المظلوم الذي يأبى إلا ان يعيش بعزةٍ وكرامةٍ وإباء. السلام على الشهداء الذين سيشهدون عند الله على خذلان الأمة لكربلاء فلسطين، التحيةُ لأهلنا النازحين وللمقاومة التي هي الشمعة المضيئة في ليل هذه الأمة، العار للجبناء والمثبطين والمحرّضين أعوان الصهاينة القتلة”.
Related Posts