نظمت ثانوية القلبين الاقدسين – عين عملًا مسرحيًا بعنوان “جبران خليل جبران: جمالية العبادة والقيم”، ضمن امسيتها الشعرية الثقافية على مسرح الثانوية لمناسبة مئوية جبران نجم، برعاية وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى وحضوره إلى جانب ضيف الشّرف الشّاعر الفنّان رودي رحمه، مديرة الثانوية الاخت نوال عقيقي وحشد من مسؤولي المدرسة والأساتذة والأهالي والتّلاميذ .
وألقى المرتضى كلمة بالمناسبة استهلها قائلًا: “الآن، بعد مرور مئة عامٍ على ولادة كتاب النبي يتملكني هذا السؤال: لو أن المصطفى المختار الحبيب الذي كان فجرًا لذاته، بقي حتى اليوم منتظرًا سفينتَه لتعودَ به إلى لبنانَ أرضِ مولده، أتراه حين يبلغ شاطئَ هذا الوطن يفاجأ بما صارت إليه حالُ أبنائه الساعين كلُّهم أو جُلُّهم إلى ترك أورفليسهم باتجاه المهاجر الواسعة كما فعل هو في أول صباه؟ أتراه يندمُ اليوم على عودتِه بعد هذا الغياب الطويل، ويمضي ليفتش عن “ميترا” ثانية تسائله عن الهجرة وأتعابِها، والوحدةِ الوطنية ومقتضياتِها، والعيشِ الكريم ولوازمِه المادية والمعنوية، فيكتبُ لنا حينذاك “نبيًّا” جديدًا؟”
أضاف: “أقول هذا عالـمًا أن نبي جبران، وقد دخل القرنَ الثاني من زمان حبره، ما زال شامخ البيان سلسال الرؤى عميق المقاربات. ذلك أنه ابنُ تلك الطبيعة الرائعة من شمال لبنان حيث تشمخُ الجبال، وتترقرقُ الينابيع في عمق الأودية، فتسكب السكينة والثورة معًا، وتَمْسَحُ الجمالَ بالقداسة، وتلوّحُ للطبيعة بزنودٍ تفتت الصخر لامتلاك الغد المشرق كالشمس، الأبيض كالثلج، العالي كالأرز. ويقيناً، لو لم يكن جبران ابن تلك القصيدة الرائعة المهيبة التي اسمها لبنان لما كان ما هو عليه الآن من حضور باذخ يتجاوز العُمْرَ إلى الزمان”.
وتابع: “وتعرفون أن كتاب النبي لجبران تتخطرُ حروفه بين الفكر والشعر، فأحرى به أن تقام ذكراه في حضن أمسية شعرية تحييها هذه المدرسة الرائدة. ولأن القصائد ستأخذ الحيز الأكبر من اللقاء، فإنني أود أن أخاطبكم بشيء من الفكر الوطني البسيط الذي أرى فيه منجاتنا الوحيدة مما نحن فيه. ليس لنا أيها الاصدقاء خلاصً إلا باتحادنا والتفافنا حول الحرية التي تكفل لكلٍّ منا، فردًا أو جماعة، حضوره ودوره. إنها رسالة هذا الوطن أن يكون شاهداً لعيش معًا الناس في ظل التنوع، كنصوص شتى في كتاب واحد، أو كأبيات كثيرة من قصيدةٍ عصماء. لا شك في أن التنوع يفضي إلى كثير من التباينات في الرؤى، وهذا بذاته مدعاة فرح وتميز”.
وأردف: “لكن علينا دائمًا أن ننظر إلى إيجابيات بعضنا البعض، بدل التفتيش عن السلبيات التي تجرح وتفرِّق، خصوصًا ونحن في مـأزق وجودي تتراكم فيه الأزمات علينا، ويعصف بنا عدوان ضارٍ من كيان مقيت لا يريد لنا سوى الشر. لكننا مطمئنون جميعًا إلى أن نواميس الحياة لا بدَّ لها أن تسود، فيزولَ الاحتلال وتنتصرَ إرادات أهل هذه الأرض. وإن غدًا لناظره قريب .”
وختم وزير الثقافة: “لا أظنُّ أحدًا من اللبنانيين المخلصين على اختلاف انتماءاتهم ومواقعهم يقبل أن ينطبق عليه قول جبران: “لكم لبنانكم ولي لبناني” لذلك علينا أن نعمل معًا ونضحي معًا ليعود وطننا على صورة لبنانَ الجبرانيّ. عشتم وعاش لبنان”.
أمّا مديرة الثّانويّة نوال عقيقي، وبعد تثمينها حضور الوزير المرتضى كونه الضامن لتراث لبنان وثروته، والشّاعر رودي رحمة، كونه مدرسة تجمع بين الإبداع والروحانية، شدّدت على أنّ “نبيَّ جبرانَ لم يقتصرْ على دينٍ أو مذهبٍ بل كان نبيًّا عالميًّا، لذلك، صار بعدَ مئةِ عامٍ، مذبحًا مقدّسا، ينهل منه النّاس آياتٍ مقدّسةً عن المحبّةِ، والزواجِ، والأبناءِ، والعطاءِ، والفرح والحريّةِ، وأكّدت الأخت عقيقي على أنّ فكرَ جبرانَ تجاوزَ أعماقَ مياهِ المحيطاتِ والبحارِ بأضعافٍ، واتّسم بخيالِ عابرٍ للقارات، ولا يزال يتسلّلُ في الشوارعِ، في الساحاتِ، في العقولِ والقلوبِ تاركًا قطراتِ ندىً منعشةً مع كل فجرٍ وعند شروقِ كلِّ شمسٍ”.
والعمل الذي كتبته ديانا يعقوب أستاذة ومنسّقة اللّغة العربيّة في الثّانويّة، وأخرجه الأستاذ بطرس حنّا، ومثّله تلاميذ الصفّ الثّانوي الثّاني، يحاكي عالم جبران خليل جبران الأديب والفيلسوف والرسّام، في رحلة امتدّت على أربعين دقيقة، تأسرالمشاهد من أوّلها إلى آخرها بحركيّة مشهديّة وديناميّة حواريّة حوّلت المسرح إلى لوحةٍ فنّية مزجت في لعبةٍ فنّيّةٍ مُبهِرة النصّ مع الحركة والموسيقى، لتخلق وحدةً متناغمة متآلفة تقطع الأنفاس، فتحار كيف تنقّل بصرك على مسرح تحوّل إلى مسارح ومشهديّاتٍ تستحضر فكر جبران وحياته من بشرّي إلى أميركا فلبنان مرورًا بنبيّه.. ويستفزّك المشهد لشدّة صفائه وشفافيّته لتكون أنتَ جبران آخرَ، ثائرًا آخرَ على كلّ ما يحطّ من إنسانيّة الإنسان، فلا تعرف في نهاية العرض، هل كنت مجرّد متفرّج أم صرت شاهدًا على عالم جبرانيٍّ جديد، مدعوًا لتكون فاعلًا حقيقَّا فيه؟
وفي كلمتها شدّدت الاستاذة ديانا يعقوب على ان “غاية هذا العمل في مدّ جسر فكريّ يعبر من خلاله شبابنا، إلى فكر جبران و”غابِهِ”، وعالمِه النقيِّ، فيستحضرون قيم الخير والحقّ والجمال، ويتعلّمون معاني الانتماء إلى الوطن والهوّيّة ويعشقون اللّغة العربيّة، لأن لا قيامة لأمّةٍ تُهمل لغتها”.
وقرأ الشاعر والفنّان رودي رحمة من مشهد “جمال الموت” كما يتخيّله جبران في حواره الأخير مع ماري هاسكل، فيتمنى أن يستريح بين يدي الموت بعدما سكرتْ نفسه بالمحبّة، يراه عمود نورٍ، يرفعه ليحلّق في عالم الحرّيّة، لكنّه لا يرحل عنّا قبل أن يترك لنا كنزه، تحفته “النبيّ” يضيء عتمة حياتنا، هناك حيث تلتقي السّماء والأرض، يرحل بجسد لا يليق به كفنًا سوى أبيض الزنبق والفلّ:
” مدّوا ضلوعي زهور تعلا دراج
وضلوع سَفرا فوق هالليمون
يللي بيـ وردو ملفلف ومسكون
مدّو البقايا.. الرّوح عطرو يشبشبا
والنّدب يطفي…..
… وسكون غفَّا سكون
وما فيه حدا بالعمر قادر يندبا”
وفي ختام الأمسية تمّ تقديم الهدايا والتقاط الصُّوَر التذكاريّة.
Related Posts