يفرض الحوار نفسه على المشهد السياسي، فكل من في لبنان يدعو إليه، والأكثرية يقبلونه ويرفضونه في الوقت نفسه، ثم يتنافسون على طرح حوار على قياسهم أو وفق توجهاتهم وأجنداتهم السياسية.
منذ بدء الشغور الرئاسي، وكلمة الحوار تسيطر على تصريحات كل المعنيين، إنطلاقا من قناعة لديهم أن لبنان لا يُحكم إلا بالتوافق، وهذا التوافق لا يحصل إلا من خلال الحوار الذي أعاد تصويب الأمور وحفظ السلم الأهلي في مراحل سابقة، لكن الخلافات المستشرية والانقسامات العمودية، أوصلت الأمور الى “حوار كل مين إيدو إلو”، حيث أن أكثرية التيارات السياسية لا سيما المسيحية منها تريد الحوار الذي يؤمن مصالحها ويحقق طموحاتها في الاستحقاق الرئاسي.
لطالما جدد رئيس مجلس النواب نبيه بري في كل أزمة تواجه البلاد الدعوة الى الحوار، وهو أطلق أكثر من محاولة خلال السنة والخمسة أشهر الماضية لجمع الأفرقاء السياسيين على كلمة سواء رئاسية، وصولا الى الدعوة الرسمية التي أطلقها خلال مهرجان الذكرى السنوية لتغييب الإمام موسى الصدر في 31 آب الفائت، والتي تمثلت بحوار الأيام السبعة، وبعدم فرض رئيس أو وضع فيتو على رئيس، وبإعتماد الجلسات الانتخابية المتتالية.
دعوة بري تلقفها حزب الله وتكتل الاعتدال الوطني وتكتل التوافق الوطني وعدد من النواب السنة، وكذلك اللقاء الديمقراطي، واللقاء الوطني المستقل، وكتلة الأرمن وبعض النواب المستقلين، وحاول التيار الوطني الحر عبر رئيسه جبران باسيل بداية المقايضة عليها، قبل أن يعود ويرفضها الى جانب القوات اللبنانية والكتائب والتغييريين ومستقلين.
لا يخفي الثنائي الشيعي تمسكه برئيس تيار المردة سليمان فرنجية مرشحا لرئاسة الجمهورية، ودعوة بري الى الحوار ليست كما يصورها رئيس القوات سمير جعجع بأنها من أحل تكريس ترشيح فرنجية، بل هي من أجل أن يقدم كل فريق سياسي المرشح الذي يتبناه ويتبنى رؤيته وبرنامجه، بما يسمح بإسقاط المعايير على المرشحين ومن ثم التوافق على إسمين أو أكثر للذهاب بهم الى مجلس النواب.
ولم تبتعد اللجنة الخماسية وسفراؤها في لبنان عن دعوة الرئيس بري، وإن كانت عدّلت إسم الحوار الى “تشاور أو نقاش”، وكذلك تناغمَ تكتل الاعتدال الوطني مع روحية مبادرة بري في الدعوة الى التلاقي من أجل الحديث في الاستحقاق الرئاسي بدل تمترس كل فريق في موقعه وإنقطاع التواصل بين الجميع.
اليوم، وفي ظل إنسداد الأفق السياسي والرئاسي معا، بات لكل فريق حواره الذي يجد فيه خشبة الخلاص، واللافت أن بكركي دخلت بقوة على هذا الخط، فبعد أن عطل البطريرك بشارة الراعي الحوار في لقائه الأخير مع سفراء الخماسية، بتأكيده رفض الأعراف الجديدة، والالتزام بالدستور، ضاربا بذلك، مساعي الخماسية ومبادرة الاعتدال ودعوة بري، يحتضن الراعي في الوقت نفسه حوارا مسيحيا ـ مسيحيا في بكركي لإعداد وثيقة تمهد لإطلاق حوار وطني من ضمنه التشديد على إنهاء الشغور الرئاسي.
في حين ترفض القوات اللبنانية مبادرة بري، وتقبل مبدئيا بمساعي الاعتدال ويحاول من خلالها سمير جعجع إستهداف رئيس المجلس وصلاحياته، وكذلك ترفض الحوار مع باسيل بالمباشر إلا بشرط إعترافه بوجوب تسليم سلاح المقاومة الى الدولة، وتقبل محاورته بالواسطة عبر مندوب عنه تحت سقف بكركي، ثم تؤكد رفضها الدخول في أي حوار أو الحديث بإسم أي مرشح قبل إنسحاب سليمان فرنجية من السباق الرئاسي.
كذلك، يرفض التيار الوطني الحر حوار بري، ويتحفظ على مبادرة الاعتدال، ثم يطلب من القوى المسيحية حوارا على الثوابت، ومن القوى السياسية الأخرى تلاقيا على ضرورة تعزيز الشراكة.
التيار البرتقالي يقطع ويصل مع حزب الله في اليوم الواحد مرات عدة، حيث لا يتوانى عن إنتقاده وإستهدافه تارة، وعن تبني وجهة نظره تارة أخرى، وقد كان لافتا بعد جملة المواقف السلبية من باسيل وكوادره تجاه الحزب، قيام ممثل التيار على طاولة الحوار في بكركي برفض بند حصرية السلاح بيد الدولة، والتأكيد على أن هذا الأمر يدخل ضمن الاستراتيجية الدفاعية التي يجب أن تبحث بشكل هادئ وفي جو وطني وليس طائفيا.
على صعيد آخر، يخشى حزب الكتائب أن يذوب في القوات، ويتجنب خوض معركة مع التيار، ويتحصن ببعض التغييريين وتكتل “تجدد”، وهو يطالب بالحوار، ثم يرفض كل المبادرات المطروحة، ويشارك في الحوار المسيحي في بكركي، ويرفع السقف في وجه الداعمين لفرنجية.
يبدو واضحا أن الأكثرية لا تمتلك رؤية واضحة تجاه الاستحقاق الرئاسي، لذلك، فإنها تلعب في الوقت الضائع ولا ترسو على موقف ثابت، وذلك، بإنتظار الصافرة الاقليمية والدولية التي سيتم ضبطها على مواقيت توقف العدوان على غزة والذهاب نحو التسوية التي يُفترض أن يكون لبنان ورئيسه المقبل من ضمنها.
Related Posts