كان لافتاً التصريح الذي أطلقه أمس النائب ملحم خلف، المعتصم داخل مجلس النواب لليوم الـ411 على التوالي إحتجاجاً على عدم إنتخاب المجلس رئيساً جديداً للجمهورية، عندما رأى أنّ “حالة الفوضى القائمة تخطّت المعقول”، متهماً الموفدين الأجانب الذين “أعادوا سياسة القناصل، يمعنون في خرق الأعراف والأصول الدستورية”.
وإذا كان خلف يقصد بانتقاده الفوضى القائمة والفراغ الحاصل في سدّة الرئاسة الأولى، لأنّ صلاحيات رئيس الجمهورية، وفق رأيّه، “لا تنتقل لا إلى الحكومة ولا إلى رئيس المجلس ولا إلى رموز القوى السّياسية”، فإنّ إنتقاده الموفدين الأجانب الذين يزورون لبنان بكثرة هذه الأيّام إستدعى التوقّف عنده.
إذ لم يكن خافياً أنّ خلف يقصد بالموفدين الأجانب الموفد الأميركي الخاص عاموس هوكشتين، دون غيره، الذي لم يلتقِ وزير الخارجية عبد الله بو حبيب وفق ما تقتضي الأصول الديبلوماسية، وغضّ النّظر عن الإجتماع به خلال زيارته لبنان قبل أيّام، ما جعل إنتقادات كثيرة توجّه إليه.
غير أنّ إنتقاد خلف للموفد الأميركي، في الظّاهر، لم يكن لهذا السبب، ذلك أنّ تسريبات عديدة نقلت عن من يُوصّفون أنفسهم بأنّهم “نوّاب التغيير”، تحدثت عن استيائهم الشّديد من أنّ الموفد الأميركي يتجاوزهم خلال زياراته لبنان، ولا يلتقي بهم، خصوصاً خلال زياراته الثلاث الأخيرة التي قام بها للبنان، منذ أنْ بدأ العدو الإسرائيلي في شنّ عدوانه على قطاع غزّة في 8 تشرين الأوّل الماضي، وبعد ذلك على جنوب لبنان.
هذا الإستياء الذي عبّر عنه خلف، وهو نموذج يشاركه فيه أغلب نواب التغيير وأمثالهم في بقية الكتل النيابية، ليس جديداً برأيّ مراقبين، إذ حثّ بعضهم هؤلاء النوّاب على قراءة كتاب وكيل وزارة الخارجية الأميركية السّابق للشؤون السّياسية ديفيد هيل، الذي نشرت جريدة “الشّرق الأوسط” السّعودية 3 حلقات منه كان آخرها يوم أمس، ليدركوا كيف تعاطت وتتعاطى الأدارة الأميركية مع اللبنانيين.
في كتاب هيل الذي يحمل عنوان: “السّياسة الأميركية تجاه لبنان: ستّ محطات وأمثولاتها”، يقول هيل: “أمّا اللبنانيين السّاعون إلى التخلّص من هيمنة سورية والوكيل السّوري ـ الإيراني حزب الله، فلم يتلقوا أيّ إلتفاتة من واشنطن في التسعينات”، فما أشبه اليوم بالبارحة.
ما سبق يشير إلى أنّ خلف، وغيره، لم ينتقدوا الموفدين لتجاوزهم وعدم الإجتماع بهم، ولا تجاوزهم صلاحياتهم إلى حدّ جعلهم يشبهون ممارسات القناصل الأجانب خلال أيّام متصرفية جبل لبنان الذين كانوا يتصرّفون وكأنّهم الآمر النّاهي في شؤون المتصرفية، بل لأنّ الموفدين الأجانب أسقطوهم من حساباتهم، وأنّ هؤلاء الموفدين يُقدّمون مصالح بلادهم على أيّ علاقات تربطهم مع جماعات وطوائف معينة في لبنان، لا تؤمّن أو لم تعد تُؤمّن لهم مصالحهم المختلفة، وتعزيز نفوذهم في لبنان والمنطقة.
بعد مرور أكثر من 160 سنة على زمن المتصرفية، وما يزيد على 100 سنة على ولادة لبنان الكبير، لا يبدو فقط أنّ أسلوب تعاطي الموفدين مع اللبنانيين لم يتغيّر وكأنّ زمن القناصل ما يزال حاضراً، بل لأنّ اللبنانيين ما يزالون كما هم يعيشون في أوهام وأحلام يرفضون الخروج منها.
Related Posts