شهدت محكمة التمييز في قصر عدل بيروت إطلاق “منتدى العدالة”، بدعوة من وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة ولجنة الإدارة والعدل النيابية، وبدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) والاتحاد الأوروبي (EU)، في حضور فاعليات قضائية ودبلوماسية وقانونية وحقوقية.
بداية، قال وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال القاضي هنري الخوري: ” يشرفني أن أكون بينكم اليوم لإطلاق مشروع طالما انتظرته السلطة القضائية في لبنان هو “منتدى العدالة”، تسمية قد يستغرب سامعها ويتساءل عن المعنى المقصود من ورائها، فهل تحتاج العدالة إلى منتدى لتتحقق أم إلى قضاة كفوئين جريئين مقدامين؟ الجواب بسيط، فالعدالة من دون تشريعات ومؤسسات تنظمها لا يمكن أن تحقق غايتها”.
اضاف: “هذا المنتدى هو الأول في تاريخ لبنان يحاكي بكل صراحة وشفافية العوائق والصعاب التي تواجهها العدالة، فبالإضافة إلى الحاجة الماسة للإصلاحات، تعاني السلطة القضائية في لبنان من نقص في التنسيق مع باقي السلطات، فيأتي دور هذا المنتدى الذي نفتتحه اليوم ليقترح الحلول لهاتين المشكلتين من خلال دعوة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى حوار صادق وإيجابي هو الأول من نوعه حول الإشكاليات الأساسية المتعلقة بالسلطة القضائية، وهو الحجر الأساس والمنطلق الثابت لإيجاد الحلول، الأمر الذي يشكل دافعا متينا لعملية الإصلاح. وقد حرصنا مع المعنيين على عدم تغييب أي من الجهات المعنية في مجال العدالة عن جلسات العمل لاسيما نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس”.
وتابع: “إن المواضيع التي سيتم مناقشتها في هذا المنتدى لا سيما حقوق الإنسان وحماية الأطفال، هي مواضيع جد هامة نود إصلاحها نظريا وفعليا، ولا أغالي إن قلت، وأنتم تعلمون، إنه بالرغم من الظروف الاستثنائية الصعبة التي مرت بلبنان، لم تأل السلطة القضائية جهدا في الإطلاع ومواكبة التطور القانوني في مختلف البلدان، ولعل أهمية هذا المنتدى تكمن في أنه يلاقي القضاء اللبناني في توقه الدائم إلى مجاراة حركة التطور الحضاري العالمي ومواكبة المعايير وأفضل التجارب في الميدان الدولي القانوني بالتعاون مع السلطتين التشريعية والتنفيذية”.
وقال: “إذا كانت الصعاب كثيرة، فإن ذلك لا يعني أننا لم نبذل جهودا واضحة في مختلف المواضيع التي سيتطرق إليها هذا المنتدى، فوزارة العدل لم تتأخر يوما في التعاون مع المنظمات الدولية في مختلف المواضيع القانونية، الأمر الذي سينعكس إيجابا على الوضع القضائي وحسن سير العدالة، منها على سبيل المثال التعاون مع هيئة (venise) البندقية في مجلس أوروبا من خلال الإستحصال على رأيها القانوني بالنسبة لمشروع قانون استقلالية السلطة القضائية والتي لا شك أنها ستدفعنا إلى قراءة مشروع القانون على نحو يتطابق مع القواعد الدولية مع احترام الخصوصية اللبنانية التي سلطنا الضوء عليها عندما دعت الحاجة، فضلا عن طلب وزارة العدل لرأي هذه الهيئة بشأن اقتراح قانون إصلاح القضاء الإداري، والدخول معها في نقاش بناء يعود بالنفع على الحياة القانونية والقضائية في لبنان”.
اضاف: “لقد كان لوزارة العدل أيضا، حصة من التعاون مع المفوضية الأوروبية أهمها إطلاق المفاوضات الرسمية التي خاضها وزير العدل مع المفوضية حول التعاون القضائي بين لبنان و EUROJUST، أضف إلى ما تقدم، وفي ما خص الشفاقية والتحول الرقمي وهو المستقبل الذي لا مفر من مواكبته وتنظيمه، فقد وضعت وزارة العدل المرسوم التطبيقي للقانون 81/2018 حول المعاملات الإلكترونية الذي نظم شروط صحة التوقيع الإلكتروني والسندات الإلكترونية، وقد صدر هذا المرسوم عن مجلس الوزراء مما سيسمح بإعطاء القيمة القانونية ذاتها للسندات الإلكترونية كتلك الخطية، الأمر الذي سيساعد لبنان في انتقاله إلى الاقتصاد الرقمي والحوكمة الإلكترونية”.
وختم: “إن هذه المبادرات التي أشرت إليها مذكرا تندرج ضمن الإصلاحات التي سيبحثها هذا المنتدى، الذي ننتظر أن يكون نقطة تحول واضحة في ميدان العدالة في لبنان لأن العدالة هي الأساس في بناء دولة القانون التي نعمل على إرسائها.”
من جهته، قال الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود: “بداية، أقتبس حرفيا فأقول: “أول ما يحضر في ذهني في هذه اللحظة، هو همـي الدائم، أن تعود مدينتي بيروت أما للشرائع كما هو لقبها، وأن ننجح كلبنانيين في إقامة دولة القانون في بلادنا، وأن يسود العدل بين أبنائها”. إقتباس عن رئيس محكمة العدل الدولية القاضي نواف سلام، الذي نتشارك معه الهموم والأهداف”.
أضاف: “في السياق ذاته، أضيف أن تكريس دولة القانون، يفترض ثلاثية ثابتة: أولا، تشريعات وقوانين. ثانيا، قضاة مستقلون وجهاز قضائي فاعل. ثالثا، ضمانات مادية للقضاة وتجهيزات لقصور العدل. فأين نحن منها، وكيف حاولنا وما زلنا نحاول الوصول إليها؟”.
وتابع: “يجدر التنويه هنا، بالتقرير الصادر عن مجموعة الخبراء الأوروبيين بتكليف من الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي يتماهى في خلاصاته إجمالا، مع ما هو مطلوب للوصول إلى دولة الحق والقانون.
أولا: لجهة التشريعات والقوانين
من المسلم به والمؤكد، أن السلطة القضائية المستقلة، هي في أساس وجود دولة القانون، وأن الاستقلالية بحاجة إلى قانون يرعاها، وإلى تشريع ينظمها.
والقضاء اللبناني ينتظر إقرار اقتراح القانون المتعلق بهذه الاستقلالية، الذي لا زال يدرس فيستعاد ليعاد درسه، منذ سنوات من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية، بما يثبت عدم وجود إرادة حقيقية في إقراره، وفي تخطي مرحلة الدرس إلى الإقرار”.
وقال: “تجدر الإشارة هنا، إلى أن مجلس القضاء الأعلى، لم يتوان يوما عن اتخاذ المبادرات بهذا الصدد. ففضلا عن اقتراحه تعديلات محددة لبعض مواد قانون القضاء العدلي الحالي، من شأنها تأمين الاستقلالية وتحصينها، فإنه عمد أيضا إلى وضع ملاحظات مفصلة، واقتراحات تعديلية على اقتراح القانون المعروض، كما اقترح تعديلات على قوانين أصول المحاكمات الجزائية والمدنية، وقانون القضاء العدلي وسواها، بهدف تسريع المحاكمات بالشروط الفضلى، والوصول إلى العدالة، وتأمين حسن سير المرفق القضائي”.
اضاف: “تبقى مشروعية السؤال عن الفترة، التي يفترض انتظارها بعد لإقرار هذا القانون وهذه التعديلات، وهل أن إقراره سيحقق فعلا دولة القانون والعدالة؟ لا شك في أن إقرار قانون استقلالية القضاء، هو خطوة ضرورية وأساسية في طريق التغيير المطلوب، لكن يجب أن يترافق مع خطوات أخرى تطال القضاة وأوضاعهم والجهاز القضائي وقصور العدل”. وتابع: “ثانيا: لجهة القضاة والجهاز القضائي
إذا كان لا وجود لدولة القانون من دون سلطة قضائية مستقلة، فلا سلطة قضائية مستقلة من دون قاض يتمتع بالمناقبية القضائية، وبالكفاءة العلمية والشجاعة المهنية، وبالإرادة الجادة للعمل.
ويبدأ هذا الأمر، من خلال حسن اختيار القاضي، وجودة تدريبه، ومن ثم من خلال تعيينه في المركز المناسب له، إضافة إلى تقييم عمله، وصولا إلى تحفيزه ومكافأته، أو مساءلته عند الضرورة”.
وقال: “إن مجلس القضاء الأعلى، رغم كل الظروف الصعبة التي مر بها لبنان عموما، والقضاء خصوصا، عمد إلى وضع تصور جديد لمباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية، وذلك في ظل الأحكام القانونية المعمول بها حاليا، بما يضمن اختيار الأفضل بين المتبارين وشفافية المباراة. كما طبق التدريب المستمر للقاضي من دون وجود نصوص قانونية ترعى الموضوع، ووضع مشروعا لتقييم عمل القضاة، وذلك بالتعاون مع منظمات دولية ودول مانحة. كلها مواضيع تنتظر تكريسا تشريعيا”.
اضاف: “نسأل الجميع: لماذا الوضع القضائي هو على ما هو عليه اليوم؟ الجواب واضح وساطع، فإضافة إلى تقاعس السلطة التشريعية وفق ما سبق بيانه، فإن عدم توقيع التشكيلات والمناقلات القضائية الشاملة والجزئية وفقا للقانون من قبل المراجع المختصة، المؤكد عليها مرارا وبالإجماع، من قبل مجلس القضاء الأعلى، والتي وضعت بالاستناد إلى معايير موضوعية أقرها المجلس لأول مرة، وبقيت حبرا على ورق، هو السبب الرئيسي لوضع القضاء اليوم. فهل ما زلنا نسأل ونتساءل عن المسؤول الأساسي عن هذا الوضع؟ وعن عدم قيام القضاء بدوره المفترض والمطلوب والمعول عليه في مكافحة الفساد؟”.
وتابع: “على صعيد آخر، لا قضاء مستقلا، من دون تطبيق مبدأ الثواب والعقاب، ولا سيما من قبل تفتيش قضائي ومجالس تأديبية فاعلة. مع الإشارة إلى أن الملاحقات التأديبية، أدت إلى إنهاء خدمات ثلاثة عشر قاضيا في الفترة الأخيرة، أربعة منهم ملاحقون أيضا جزائيا. وعلينا ألا ننسى في هذا السياق، دور المساعدين القضائيين، إذ يجب العمل على تحفيزهم وتدريبهم ومراقبتهم ومساءلتهم عند الحاجة”. وقال: “ثالثا: لجهة الضمانات المادية للقضاة، وتجهيزات قصور العدل
لا قضاء مستقلا وفاعلا من دون تأمين مخصصات ورواتب مناسبة للقضاة، تتلاءم مع حجم مسؤولياتهم وخطورة مهامهم ودقتها، وتكون عنصر جذب لاستقطاب الكفاءات لدخول معهد الدروس القضائية. كما يتعين تأمين التمويل المناسب لصندوق تعاضد القضاة ليصبح قادرا على تحقيق موضوعه، من خلال ضمان الاستشفاء والتعليم والتقديمات الاجتماعية للقاضي ولعائلته وتأمين مسكن لائق له، إضافة إلى تحسين الوضع المادي للمساعدين القضائيين”.
أضاف: “أما بالنسبة إلى قصور العدل وقاعات المحاكمات ومكاتب القضاة والأقلام، فلا بد من إعادة تجهيزها، لا بل إعادة تشييد قسم منها، لكي تصبح لائقة بالمتقاضين والقضاة والمساعدين القضائيين. كما يتعين مكننة العمل القضائي وتحديثه، بغية الوصول إلى شروط عمل وإنتاجية متوافقة مع التطور والتحول الرقميين”.
وتابع: “أختم بتوجيه الشكر إلى الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، على التقرير الواقعي والموضوعي، والأفكار المستقبلية المتعلقة بالوضع القضائي الحالي. وأنهي بخلاصتين:
أولا: أثبتت التجربة حتى الآن، أن السلطات والمرجعيات والقوى والفاعليات السياسية لا ترغب على العموم بوجود سلطة قضائية مستقلة، وأن كلا منها يريد قضاء على قياسه وقياس مصالحه، وأنها نجحت في إيصال القضاء، إن باتفاق صريح أو بتوافق ضمني، إلى وضعه الحالي، الذي يسأل ونسأل عنه أيضا.
ثانيا: إن النهوض القضائي، واستعادة القضاء لدوره، لن يتحققا إلا عبر إرادة وتعاون حقيقيين، بين مختلف السلطات، وفق ما يفترضه الدستور، بمشاركة من المجتمع المدني، وبتعاون مع الجهات الدولية الحاضرة والقادرة والراغبة في تأمين المساعدة والدعم، علما أن تجربتنا سابقا في طلب المساعدة الدولية، لم تلق التجاوب المطلوب”.
واردف: “أخيرا، فلنحيي الإرادة بالتفاؤل، ولنضف إليها رمزية هذا المكان، أي رمزية اختيار محكمة التمييز مكانا لانطلاق مشروع النهوض والتحديث القضائيين. فلهذه الرمزية أهميتها، إذ إن محكمة التمييز هي التي تسهر على القانون “Sentinelle du droit”، وهي التي أنشئت في العام 1919، أي قبل إعلان دولة لبنان الكبير، بهدف “عدم قطع سير العدالة، وعدم تعليق المحاكمات إلى أجل غير مسمى”، كما جاء حرفيا في سبب وجوهر قرار إنشائها”.
وختم: “عسى أن يكون إطلاق مشروع التحديث القضائي من هذا المكان بالذات، مؤشرا ودافعا للسير بالمحاكمات والتحقيقات المتوقفة والمجمدة، ومنطلقا لإعادة بناء دولة القانون والعدالة، ولاستعادة دور بيروت كحاضنة للشرائع وحامية للحقوق ومنارة للعدالة”.
Related Posts