كتب عباس علي مراد
أشعل الشاعر بدوي الحاج شمعة عواطفه وذاكرته وصاغ عباراته في طواف روحي، زماني ومكاني مترامي المسافات بين مرابع الطفولة وأقاصي الغربة… فهو المحب، العاشق، الانساني، الثائر، المقيم والمغترب.
في نصوصه وقصائده يأتلف المعنوي مع المادي جامعاً تعابيراً واشكالاً واجناساً تشمل معاناة الانسان والوطن في الحاضر والماضي وبين الرحيل والغربة والإقامة.. لم يترك قلبه على قارعة الحب بل غرف من معين الحب كل ما استطاع اليه سبيلاً…
يقتص من الحياة تجاربها الحلوة والمرة، احزانها وافراحها، ولا يتملكه اليأس، يثور على المألوف وعلى الظلم وهو يمضي الى أحلامه…
إستل الشاعر قلمه ليدوّن قصائده ونصوصه فوق صفحات كتابه الجديد “أنا لم أكن أنا” الصادر عن دار المؤلف في بيروت عام 2023 ويقع في 174 صفحة من الحجم الصغير ويتضمن87 قصيدة ونص بالإضافة الى مقدمة الناشر.
قال بدوي الحاج الكثير في كتابه، وباح بأكثر ما يجول في نفسه ودون ما يدور حوله… وهو العارف انه عابرٌ في هذه الحياة حيث يقول: لم نأت لنبقى./ والكون محضُ صدىَ./ قل ما تشعر به،..(ص10).
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل قال الشاعر كل ما لديه على دروب الرحيل والهجرة والغربة؟ وهوالقائل الهجرة: حفنة مني ومِنك في حَقيبَة/ الهجرة تبتلعنا والحَقيبة (ص82). والملفت ان المفردات الاكثر ترداداً في الديوان السفر، الوداع، الرحيل، الهجرة، العبور والحقيبة.
يقول في قصيدة “أنا لم أكن أنا” والتي أعطى للكتاب اسمها: انا الولد العاق (ص 15) هذا الولد العاق يملك فيضاً من الحنين والشوق والمحبة والغيرة والحرص لمدينة بيروت.
ويقول في قصيدة هنا بيروت: خذني هُناك/ حيث تنام الشمس على شرفة البحر/ بين يديها أسرار الأنبياء/ بين يديها مفاتيح السماء..(ص21).
فلسطين القضية بأبعادها الإنسانية، الوطنية القومية حاضرة في الكتاب ففي قصيدة فلسطين (ص28) فعلى الرغم من بشاعة الإحتلال وهمجيته وعنصريته يقول الشاعر: سبعون عاماً ولم يأت الربيع/ سبعون عاماً وشبابيكنا ثورة/ أبوابنا ثورة/ وكل أغنية لحنها ثورة/ الدار دارنا/ والأرض أرضنا…
لكن الشاعر لا يدانيه الشك بأن الليل سوف ينجلي ويرى ان نوافذ الأمل وابوابه مشرعة للحلم الفلسطيني، لأن الفلسطيني لم يستكن ولم يهن وبقي قابضاً على جمر قضيته ويقول: أنا طفل فِلسطيني،/ أنا موسم الخير المنتظر/ أنا الزهر/ أنا النهر/ أنا زخات المطر.. وفي قصيدة لحن القضية(ص43) يقول: لن يموت من قلبه على الزناد…/ من يؤمن بأرضه… وبعناد.
الشاعر العاشق حتى الرمق الأخير وحتى حدود الأنانية يقول في قصيدة زائرة صيف (ص31): كزائرة موسمية،/ أعود بك/ بلا فواصل/ بلا استئذان../ أسيرة لشهواتي،/أنانيٌّ في العشق أنا. وها هو في قصيدة عيناكِ (ص75) يهجر معتقدات الجاهلية ويتغزل بحبيبته على الملأ قائلاً: وعيناك كل المدى/ كل المدن والواجهات../ عيناك تتلويان/ نشوة/ كشهيقٍ في آخر نغمات الحب..! وأجمل ما في هذا الحب ان الشاعر جعل من حبيبته غابة ونهراً وبحراً ففي قصيدة آخر الزهر(ص150 ) يقول: كنت غاباً يعبره النهر/ كنت بداية لكل بحر/ كنت اول الرحيق/ وآخر الزهر…
لا يرضى الشاعر ان يعيش على قارعة النسيان ولا يتهرب من الإضاءة على مثالب رجال الدين والدنيا، ويسلط جام غضبه على الفاسدين الذين أتوا على كل ما في الوطن من معنى ويتساءل في نص بعنوان: ماذا فعلتم بنا ؟!(ص134) ماذا فعلتم بنا، بمستقبل اولادنا، بأحفادنا؟!/ ماذا فعلتم بأرضنا، بديارنا، بأشيائنا؟!/ ماذا فعلتم بأهلنا، بوطننا؟! ماذا فعلتم بنا؟!..
لكن الشاعر لم يوفر الشعب الذي بقي خاملاً ولا تهتز مشاعره كأنه يعني كما تكونوا يولى عليكم، ويقول بغضب في نص بعنوان ثورة (ص58) كيف لنا أن نقود ثورة…/ فنحن حفنة من الشعوب المكدسة مذهبياً، طائفياً وسياساً…
الوصية
ففي نص بعنوان الرحيل (ص40) وما ادراك ما الرحيل الذي لا يألفه الا من اقتلع من أرضه واجتثت جذوره، يقول الشاعر: ما اكثر الحزن في الزوايا..! الرحيل يحتاج الى حقيبة، لا أكثر.. نملأها بتراب طفولة شرسة، لم تدمل جراحها…
وفي ختام النص يقول: قبل الرحيل، خذ كمشة من الحبق الصيفي، خذ منديل امك وخصلاً بيضاء من شعرها، وأحشر حقيبتك بك جميل.. قد تعود يوماً وقد لا تعود.
فعلى أمل العودة التي ينتظرها الشاعر، كما كل الذين شردوا من أوطانهم، لم ينتظر بدوي الحاج تلك العودة واقفاً على الأطلال لكنه أضاء شمعة في ظلام الليل الطويل، فالتجأ الى الشعر معبراً عما يختلج في النفس معبراً عن تجربته الإنسانية والذاتية مخففاً على نفسه وعلى من سيقرأ كتابه الغني بصور شعرية تحاكي المعاناة والألم والحب.