نشر موقع “الجزيرة نت” تقريراً تحت عنوان: “عقيدة الضاحية.. لماذا تقصف إسرائيل غزة بلا هوادة؟”، وجاء فيه:
أدت معركة “طوفان الأقصى” التي شنتها كتائب “عز الدين القسام”، الجناح العسكري لحركة “حماس”، يوم 7 تشرين الأول إلى سقوط ما يزيد على 1200 قتيل إسرائيلي، بالإضافة إلى أكثر من 200 أسير، وفق التقديرات الإسرائيلية.
وإثر ذلك، شنَّ جيش الاحتلال الإسرائيلي بعدها معركة “السيوف الحديدية” التي شملت حتى الآن قصفاً جوياً وحشياً على سكان قطاع غزة خلف 20 ألف شهيد حتى الآن. في تلك الأثناء، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية” على خلفية ادعاءات بأن حماس قتلت أطفالا، وهي ادعاءات رددها الرئيس الأميركي جو بايدننفسه دون تحقق، قبل أن يتبين زيفها فيما بعد.
هل يمكن إعادة ترميم الردع الإسرائيلي؟
قبل معركة “طوفان الأقصى” بـ23 عاماً، مَثَّل طرد جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان عام 2000 على يد حزب الله تحدياً كبيراً لقدرة الردع الإسرائيلية. ولذا، عندما قام حزب الله في لبنان عام 2006 بقتل عدة جنود إسرائيليين وأسر جنديَّيْن، ثم طالب بمبادلتهما بالسجناء اللبنانيين المحتجزين في إسرائيل، كانت العملية فرصة مناسبة كي يعوِّض الجيش الإسرائيلي هزيمته.
ورغم أن إسرائيل أطلقت العنان لقوتها الجوية واستعدت لاجتياح بري آنذاك، فإنها سرعان ما تكبَّدت هزيمة ثانية في حرب صيف عام 2006. ولم يقتصر الأمر على أن سلاح الجو الإسرائيلي عجز عن إيقاف الهجمات الصاروخية التي شنها حزب الله، بل إنه عجز أيضا عن إلحاق ما يكفي من ضرر لمنع التعافي السريع للحزب. لقد اهتزت القوات البرية الإسرائيلية هي الأخرى بشدة ولم تتمكن من التقدم، إذ واجهت خصماً قادراً ومُجهَّزاً.
كي نعرف حجم الهزيمة التي عاناها الجيش الإسرائيلي عام 2006، يكفي أن نعرف أن إسرائيل نشرت في تلك الحرب 30 ألف جندي في مواجهة ألفَيْ مقاتل نظامي من حزب الله، و4 آلاف مقاتل غير نظامي من حزب الله ومن خارجه، وفق تقرير لمؤسسة “راند” الممولة من قِبَل وزارة الدفاع الأميركية. حينها، أطلقت إسرائيل 162 ألف مقذوف من الذخائر، في حين أطلق حزب الله 5000 مقذوف من الذخائر ليس إلا (4000 صاروخ ومقذوفة نحو إسرائيل، و1000 صاروخ مضاد للدبابات داخل لبنان).
علاوة على ذلك، فإن “الأغلبية العظمى من المقاتلين” الذين اشتبكوا مع الجنود الإسرائيليين “لم يكونوا مقاتلين نظاميين في حزب الله، وفي بعض الحالات من غير المنتمين للحزب”، كما كتب “أندرو أكزوم”، نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط، مضيفاً: “لم يشارك العديد من أفضل مقاتلي حزب الله وأكثرهم مهارة في أي معارك، إذ كانوا متربصين على امتداد نهر الليطاني متوقعين أن يكون هجوم قوات الدفاع الإسرائيلية أعمق كثيرا وأن يصل بأسرع مما جرى بالفعل”.
على الجبهة السياسية، كان أحد مؤشرات تبدُّل أقدار إسرائيل أنها للمرة الأولى على الإطلاق قاتلت، لا في تحدٍّ لقرار صادر عن الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، ولكن أملا بصدور مثل هذا القرار لإنقاذها من المستنقع الذي وجدت نفسها فيه. مع هذا، فقد أورد مركز بحثي إسرائيلي أن “الخيبة من إدارة حرب لبنان الثانية (2006) ونتائجها دفعت إسرائيل إلى إجراء فحص داخلي شامل عبر 63 لجنة مختلفة لتقصي الحقائق”.
بعد حرب عام 2006، كانت إسرائيل توّاقة للاشتباك مع حزب الله من جديد لتعويض هزيمتها المضاعفة، لكن ثقتها في النصر كانت مهزوزة، ولذلك سعت عام 2008 لتوريط الولايات المتحدة في هجوم مشترك على إيران بهدف تحطيم حزب الله، ومن ثمَّ تصير لها الهيمنة المُطلقة في الإقليم. لكن واشنطن رفضت حينها المقترح الإسرائيلي، ما جعل مصداقية إسرائيل أمام جمهورها في قدرتها على إيقاع الرعب وإخافة الخصوم وردعهم على المحك، ومن ثمَّ بدأ البحث عن هدف آخر سهل تستعيد عبره قدرتها على الردع.
كانت غزة الضعيفة المنكوبة والفخورة بعنادها ومقاومتها للاحتلال الإسرائيلي هدفا مناسبا، وخاصة بعدما أظهرت “حماس” مقاومة للإملاءات الإسرائيلية، وأجبرت إسرائيل على الانسحاب من القطاع، واضطرتها إلى قبول وقف إطلاق النار عام 2008. لكن كيف يُمكن أن يُدمِّر الجيش الإسرائيلي حماس دون أن يتورط في حرب برية تكبده خسائر فادحة مثلما حدث في جنوب لبنان؟
عقيدة الضاحية.. هل يعيد القصف هيبة إسرائيل المفقودة؟
في أثناء حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله، حوَّلت طائرات جيش الاحتلال الضاحية الجنوبية لبيروت إلى أنقاض، وهي منطقة يقطنها أنصار حزب الله من أبناء الطائفة الشيعية. وبعد الحرب، أشار ضباط الجيش الإسرائيلي إلى “عقيدة الضاحية” تلك عندما صاغوا خطط الطوارئ بالقول: “سوف نُشهر قوة غير متناسبة ضد كل قرية يُطلَق منها الرصاص نحو إسرائيل، وسنتسبَّب في دمار وضرر هائليْن. وهذا ليس مجرد اقتراح، وإنما خطة حازت الموافقة”، على حد وصف رئيس القيادة الشمالية لجيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، ورئيس الأركان لاحقا غادي إيزنكوت.
أما رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي “غيورا إيلاند” فقال: “الحرب المقبلة ستقود إلى محو الجيش اللبناني، وتدمير البنية التحتية الوطنية، ومعاناة شديدة بين السكان. إن التسبُّب بأضرار شديدة للجمهورية اللبنانية، وتدمير البيوت والبنية التحتية، ومعاناة مئات الألوف من الناس، هي التبعات التي يمكن أن تؤثر في سلوك حزب الله أكثر من أي أمر آخر”.
كذلك، قال العقيد في قوات الاحتياط غابرييل سيبوني: “مع اندلاع الأعمال العدائية، يتعيَّن على إسرائيل أن تتصرف بسرعة وحزم وبقوة غير متناسبة. ويهدف مثل هذا الرد إلى إيقاع الضرر وإنزال العقاب إلى درجة تتطلب عمليات طويلة ومُكلفة لإعادة الإعمار”.
لفهم عقلية المسؤولين الإسرائيليين وإلى أي درجة ينتهجون الوحشية والإبادة عقيدة لهم، يكفينا أن ننظر إلى تصريح إيلي يشاي الذي قال: “ينبغي أن يكون ممكنا تدمير غزة كي يتعلَّموا ألا يعبثوا معنا. إنها لفرصة عظيمة أن نهدم آلاف البيوت”.
رغم أن استخدام القوة غير المتناسبة واستهداف البنية التحتية يُعَدُّ جريمة حرب بموجب القانون الدولي، وهو ما شجبه المجتمع الدولي في أوكرانيا، غضَّت دول أوروبا والعالم الغربي كله طرفها عما فعله الجيش الإسرائيلي في عملية “الرصاص المصبوب” عام 2008. فقبل شهر من الحرب، حذَّر وزير الداخلية الإسرائيلي “مئير شطريت” قائلا إنه عندما يطلق الفلسطينيون هجوما صاروخيا آخر “ينبغي لجيش الدفاع الإسرائيلي أن يحدد حيًّا في غزة وأن يسوّيه بالأرض”.
كذلك، قال اللواء في قوات الاحتياط عميرام ليفين: “ما ينبغي لنا القيام به هو أن نتصرف بمنهجية، بهدف معاقبة جميع المنظمات التي تطلق صواريخ وقذائف هاون، إضافة إلى المدنيين الذين يتيحون لها إطلاق الصواريخ والاختباء”.
أما نائب رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال وقتها “دان هاريل” فقال: “أي شيء مرتبط بحماس هو هدف مشروع”. ولفهم عقلية المسؤولين الإسرائيليين جيدا، وإلى أي درجة ينتهجون الوحشية والإبادة عقيدة لهم، يكفينا ببساطة أن ننظر إلى تصريح إيلي يشاي، نائب رئيس الوزراء وقتها، الذي قال: “ينبغي أن يكون ممكنا تدمير غزة كي يتعلَّموا ألا يعبثوا معنا. إنها لفرصة عظيمة أن نهدم آلاف البيوت كي يفكروا مرتين قبل أن يطلقوا صواريخ، وإنني آمل أن تنتهي العملية بالدمار الكامل للإرهاب وحماس”، وهي تصريحات لا تختلف كثيرا عن تصريحات نتنياهو اليوم وأعضاء حكومته وقادة جيشه”.
تهدف عقيدة الضاحية إلى غرس “الهلع”، وهو ما تحقق في حرب “الرصاص المصبوب” عام 2008، ففي حين قتلت إسرائيل 55 لبنانياً في أول يومين لحرب عام 2006، فإنها قتلت ما يصل إلى 300 غزيّ في الدقائق الأربع الأولى من اليوم الأول لعملية “الرصاص المصبوب”.
وكانت معظم أهداف القصف تقع في مناطق سكنية مكتظة، في حين بدأت عمليات القصف “في نحو الساعة 11:30 صباحا، إذ كانت الشوارع تعج بالمدنيين، بمَن فيهم تلاميذ المدارس الذين كانوا يغادرون مدارسهم في نهاية الفترة الصباحية، وكذلك التلاميذ الذاهبون إلى المدارس في بداية الفترة الثانية”.
محلل إستراتيجي إسرائيلي علّق بعد أيام من الهجوم قائلاً: “لم يقم جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي خطط لمهاجمة مبانٍ ومواقع يقطنها مئات الأشخاص، بتحذير الناس مسبقا كي يغادروا، وإنما كان عازما على قتل عدد كبير منهم، وقد نجح في ذلك”.
وفي تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” وجدت أنه “لم يكن هنالك أي مقاتلين فلسطينيين نشطين على قارعة الطريق أو المنطقة المجاورة قبيل أو وقت وقوع الهجوم”.
ومع تواصُل عملية “الرصاص المصبوب”، تخلى كبار المسؤولين الإسرائيليين عن التظاهر بأن هدفهم إيقاف صواريخ حماس. كذلك، قال وزير إسرائيلي سابق لمجموعة الأزمات الدولية حينها: “تذكَّروا أن عدو إيهود باراك الفعلي ليس حماس، وإنما الذاكرة الباقية من عام 2006”.
وعجَّت الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية بأقوال من قبيل: “غزة بالنسبة إلى لبنان هي بمنزلة جلسة ثانية من الامتحان ذاته، أي فرصة ثانية لإصابة الهدف”، وإن إسرائيل أرجعت غزة ليس فقط عشرين عاما إلى الوراء (كما حدث في لبنان)، وإنما “إلى الأربعينيات من القرن العشرين”، وإنه إذا استعادت إسرائيل قدراتها الرادعة، فذلك “لأن الحرب في غزة عوَّضت عن جوانب القصور في حرب لبنان”.
وقد أفاد معلق إسرائيلي في تشرين الأول 2008 قائلا: “من المؤسف أن هذه العقيدة لم تترسخ بعد الانفصال عن غزة مباشرة (2005) وبعد أول وابلٍ من الصواريخ. لو كنا قد تبنّينا فورا إستراتيجية الضاحية، لكُنَّا على الأرجح قد جنَّبنا أنفسنا الكثير من المشكلات”.
(الجزيرة نت)