غزة .. أنين الانسانية!..بقلم: فواز شوك

هل بحثت يوماً عن الانسانية بروحها وجسدها وضميرها ووجدانها ومعانيها الحقيقية والشاملة ومنظومتها الخُلقية وتطبيقاتها العملية؟ ما عليك الا ان تفتح الشاشة لتجدها أمام ناظريك:

إنها غزة

 غزة الصامدة رغم الجراح، الشامخة رغم الخراب، الثابتة رغم الدمار، المتماسكة رغم المجازر، القوية رغم الصعاب، المنتفضة من تحت الركام، إنها الانسانية كلها، وشعبها هو روح الانسانية الذي ينبض بالحياة والنشاط والعزة والكرامة، شعب عزيز صابر كأيوب، قاهر للظلم، منتصر للحق، متأقلم مع الويلات، متكافل متكاتف عند المآسي، محب للحياة في غمرة الموت والقتل.

شعب غزة هو روح الإنسانية الذي أيقظ شعوب العالم من ثباتها وغفلتها، وهو ضميرها الذي هزّ ضمائر الاحرار في العالم، وهو وجدانها الذي حرّك وجدان أهل الانسانية جميعاً على اختلاف أعراقهم وأديانهم وثقافاتهم، ووحدهم ضد التوحش والهمجية والمجازر والقتل والابادة والعقاب الجماعي ومحاولات التهجير وضد كل ما هو مخالف للطبيعة البشرية وللشرائع والقوانين.

 من بين مشاهد القتل والدماء والمجازر سنتناول المشهد من بعض زواياه وفي نقاط مختصرة:

 – الجذور المتأصِّلة

 الصمود الاسطوري لأهل غزة أمام آلة القتل الإسرائيلية، وتمسكهم بالأرض واصرارهم على البقاء يؤكد أن الجذور الاصيلة لا يمكن أن تُجتث أو تُقتل أو تموت، لأن روحها ليست في جسد، وانما هي روح في جسد روح، روح متجذرة بجسد الأرض وبَدَنِ التاريخ وجسم الجغرافيا، يستحيل اقتلاعها أو امتشاقها أو اخراجها.

قضية أهل غزة وقضية أهل فلسطين هي جسد داخل روح، وليس فقط روح في جسد، فحتى لو تم انتزاع هذا الجسد من خلال الاحتلال والتدمير والاستيطان والاستيلاء على الاراضي وقطع أشجار الزيتون وهدم البيوت وتزوير التاريخ والسطو على الآثار وسرقة الثقافة والاعتداء على المقدسات، ستبقى روحه خضراء تنبض بالحياة، والعزيمة والثبات.

 – بين ثقافة الحياة وثقافة الموت

 لم تترك آلة الحرب والدمار الاسرائيلية شيئا في طريقها الا وعاثت به دماراً وفساداً، من مستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس وجامعات وأبراج ومباني سكنية ومراكز نازحين وأجهزة توليد الطاقة وخزانات مياه وسيارات اسعاف، وحصار شمل كل شيء وقطع كل شيء عن أهل غزة الا الهواء والكرامة لأن الهواء خارج عن قدرة المعتدي والكرامة خارجة عن ثقافته.

غير أن ثقافة الحياة في غزة ظلّت هي الأقوى، ثقافة جعلت من كل فرد من أهل غزة مشروع تضحية من أجل البقاء في الارض ومن أجل حياة الآخرين، متسلحين بالصبر والايمان، مؤمنين بعدالة قضيتهم، ثقافة جعلت كل الطواقم والموظفين والمتطوعين يعملون تحت وابل القصف والقذائف، كل واحد منهم يترقب قذيفة قد تأتيه في أي لحظة وبدون سابق انذار أو استئذان، ففي لحظة توحش قد يصبح الطبيب جريحاً أو قتيلاً، وقد يتحول الجريح الى مسعف لطبيبه، وقد يصاب الإعلامي ويصبح المواطن إعلاميا يصور جراحه، فهل هناك تضحية وشجاعة أعظم من ذلك؟

-الاعلام رسالة وليس تجارة

كميّة الكذب والفبركات الاعلامية التي شاهدناها في بعض وسائل الاعلام العالمية وخاصة الغربية منها في تغطيتها لعدوان غزة تؤكد لنا أن الاعلامي يفقد هويته الحقيقية عندما يتخلى عن الضمير وعن الصدق والموضوعية والمهنية والأمانة، ويتحول الى مقاتل مشارك في الجريمة، والى شاهد زور يساعد في اخفاء الجريمة أو تحسين صورتها، فيتحول القلم في يديه الى عصا والميكروفون الى فوهة بندقية والشاشة الى شاهد زور والأستوديو الى مصنع للكذب من أجل الكذب، لأن القلم تحركه الاصابع، والاصابع تحركها العقول والضمائر، والعقول والضمائر هما ما يميز الانسان عن باقي المخلوقات.

– يا حبذا لو يتعلم أشباه رجال الصحافة والاعلام الذين باعوا ضميرهم، معنى الانسانية والمهنية والصدق والشهامة من مدرسة الإعلامي وائل الدحدوح الذي فقد زوجته وأطفاله في القصف الاسرائيلي لكنه لم يستسلم للعدوان ولا للحزن، ولم يأخذ اجازة رغم هول المصاب، بل زاده المصاب اصرارا على الاستمرار في نقل الحقيقة، واكمال المهنة، ليقدم للبشرية أجمل نموذج في التضحية والشجاعة والصبر والاخلاص، لو كان وائل الدحدوح امريكياً لنصبوا له تمثالا مكان تمثال الحرية .

-شركاء ضد الانسانية

 اللجوء الى الكذب والفبركات والاعتماد على السرديات المصطنعة والنظر بعين واحدة من قبل بعض قادة الغرب لما يحدث في غزة من جرائم ضد الانسانية وقيمها، يهدف الى تحسين صورة الشرّ وتزيين وجه المجرم من خلال زخرفات من القول، مليئة بالغطرسة والغرور والعنجهية والوقاحة والتحدي، وصلت الى حد المباركة والمشاركة في الجريمة، متناسين أو متجاهلين أن الأقنعة المزخرفة ومساحيق التجميل والترقيع التي يستخدمونها لن تزيد وجه القاتل الا بشاعة وقبحاً كقبح مواقفهم بل أشدّ، ولن يستطيع أحمرٌ على شفاه وحشٍ أن يحجب الدماء الحمراء عن أنيابه.

بايدن العجوز الاشمط الذي لا يرى بعين الأخلاق ولا يسمع صوت الضمير لكنه يتكلم بالباطل وبلغة المصلحة والهوى، يعيد الى الواجهة السجل الاسود الطويل للإدارة الاميركية في منطقة الشرق الاوسط وخاصة وقوفها الدائم ضد حقوق الشعب الفلسطيني، إضافة الى نفوذها وهيمنتها على المنطقة العربية والعالم، وحروبها الدموية حول العالم التي لم تأتِ الا بالدمار والخراب، ومن بينها حربها على العراق بحجة كاذبة (هي وجود اسلحة دمار شامل)، فدمّرت العراق دماراً شاملًا وحولته من عراق الرشيد الى عراك الطوائف.

اما ماكرون الذي جاء مهرولاً (مثل غيره من بعض قادة الغرب) ليقدم البيعة لنتنياهو على وقع القذائف التي تنهمر على أهل غزة، محاضراً عن العفّة بأسلوب عفن، هو نفسه ماكرون الذي يرفض أن يعتذر للشعب الجزائري عن احتلال استمر حوالي ١٣٢ سنة، قتلت فرنسا خلاله نصف الشعب الجزائري منذ 1830 إلى غاية 1962 حيث بلغ عدد الشهداء 5 ملايين و500 ألف كما صرح بذلك الرئيس الجزائري، فخلال الثورة التحريرية وحدها (1954 – 1962) قتلت فرنسا مليونًا و500 ألف شهيد، إضافة إلى جرائم أخرى”. ورغم ذلك ما زال ماكرون (وماكِرونَ معه) يحاولون خداع الناس بشعارات الحرية والحضارة، متناسيا أن فرنسا هي من ساعدت الكيان الصهيوني في برنامجه النووي وبالتالي حيازة القنابل النووية، التي هدّد بها وزير التراث الاسرائيلي أهل غزة الابرياء.

 -انتصار الانسانية لغزة

 المشاهد المروعة لأشلاء الاطفال ومشاهد حرب الابادة كانت كفيلة بإحداث هزة عالمية اساسها الضمير وعمادها الوعي، انعكست على شكل احتجاجات ومظاهرات في مختلف انحاء العالم، حركها الغضب الرافض للظلم وللكذب ولسردية أصحاب السلطة والقوة والنفوذ والقرار والمال والمصالح في بلدانهم، وقد عبّرت ناشطة بريطانية متضامنة مع أهل غزة عن طبيعة هذا الحراك العالمي خير تعبير عندما حدّدت له هويته الانسانية وبالتالي جرّدت من يقفون ضده من الانسانية، عندما قالت: “انني أتضامن مع الشعب الفلسطيني لأنني انسان”! كلمات قليلة بسيطة لكنها ثقيلة في ميزان القيم والاخلاق، مؤثرة في ضمائر الاحرار.

-الهزيمة الاخلاقية لاسرائيل ومن يقف معها

 عندما تملك السلاح وتفقد الضمير، وتملك النفوذ وتفتقر للإنسانية، وتملك القوة وتكره العدل، وتملك القرار وتعشق الظلم، وتملك المال وتمارس الفجور، وتملك الاعلام وتزاول النفاق، وتملك الغذاء وتعاني من الخواء الأخلاقي.

 عند ذلك تتحول الدول الى غابات وأصحاب القرار الى وحوش والابرياء الى ضحايا، والمدن الى اطلال، والقتل الى لذّة

والدماء الى انهار، والتدمير الى تشفّي، ويصبح قصف المستشفيات متعة، وضرب المساجد والكنائس شهوةواستهداف المدارس شهية، وقتل الاطفال نزعة وهوى.

وستتشابه المعاني بين عالم متحضر وعالم يحتضر وستتسع مساحة القبور وتنقص مساحة الحضارة والعمران وتمحى مساحة الاخلاق، وتضيق المساحة بين الوحوش والبشر!

الكاتب: فواز شوك

رئيس تحرير مجلة الوسط الأسترالية


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal