ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة قداس عيد العنصرة في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد قراءة الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “وصلنا اليوم إلى العيد الخمسيني المقدس، أي العنصرة، التي نعيد فيها للثالوث القدوس وكمال عمله مع البشر عبر حلول الروح القدس على التلاميذ، وتاليا نعيد لتأسيس الكنيسة الحية وانطلاق بشارتها في هذا العالم. عيد العنصرة هو آخر أعياد التدبير الإلهي. كان هدف تجسد المسيح أن ينتصر على الموت، ويحل الروح القدس في قلوب البشر. كذلك، هدف الحياة الكنسية والروحية أن نصبح أعضاء في جسد المسيح، ونكتسب الروح القدس. تسمي التسابيح عيد العنصرة آخر الأعياد المتعلقة بإصلاح الإنسان وتجدده. فإذا كانت بشارة والدة الإله بداية تجسد الكلمة والتدبير الإلهي، فالعنصرة هي الختام، إذ فيها يصير الإنسان، بالروح القدس، عضوا في جسد المسيح القائم. بحسب القديس نيقوديموس الآثوسي، بدأ خلق العالم في اليوم الأول، أي يوم الأحد، وبدأ تجدد الخليقة يوم أحد مع قيامة المسيح، وحدث إتمام الخلق يوم أحد بنزول الروح القدس. الآب أتم الخلق بمعاونة الإبن والروح القدس، والإبن أتم التجديد بإرادة الآب ومعاونة الروح القدس، والروح أكمل الخلق منبثقا من الآب ومرسلا من الإبن، وهذا ما يجعل العنصرة عيدا للثالوث القدوس. كلمة الله صار إنسانا بإرادة الآب الصالحة، وبالتعاون مع الروح القدس. حبل بالمسيح بالروح القدس، ثم، بعدما قام الرب من بين الأموات، أرسل الروح القدس على تلاميذه وجعل منهم أعضاء جسده أي الكنيسة”.
أضاف: “خلال حياته بينهم، كان المسيح يشفي قلوب الرسل ويطهرها بتعاليمه، وبإعلانات أسراره، وبمعجزاته. لهذا، قال لهم في النهاية: «أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به» (يو 15: 3). يصف القديس يوحنا الدمشقي الروح القدس كعلامة للإبن المولود من الآب، لأنه يكشف كلمة الله ويظهره، إذ «من دون الروح القدس لا يفهم الإبن المولود الوحيد» على حسب قول القديس غريغوريوس النيصصي. أما الرسول بولس فيقول: «ليس أحد يقدر أن يقول: يسوع رب، إلا بالروح القدس» (1كو 12: 3). أعطي الروح القدس عدة أسماء، منها «المعزي»، وهو الاسم الذي يظهر عمله في الكنيسة، كما في حياة البشر. لقد قال الرب يسوع: «أما المعزي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم» (يو 14: 26)، وإذ نحن واثقون بأن الروح القدس هو المعزي، نصلي إليه قائلين: «أيها الملك السماوي المعزي روح الحق… هلم واسكن فينا وطهرنا من كل دنس…». الروح القدس يعزي الإنسان المجاهد ضد الخطيئة، الذي يسعى إلى حفظ وصايا المسيح في حياته. هذا الصراع صعب لأنه حرب ضد الأرواح الشريرة. لهذا، فالروح القدس هو المعزي، الذي يريح الناس، بحسب قول القديس يوحنا الذهبي الفم. إنه العلامة على أن الله يواسي البشر”.
وتابع: “قال الرب لتلاميذه: «أقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من العلاء» (لو 24: 49). لم يقل لهم إنهم سيحصلون على الروح القدس فقط، بل إنهم سيلبسونه، كمثل لباس روحي من الدروع لمواجهة العدو وغلبته. لا يتعلق الأمر باستنارة أذهانهم، بل بتحول كامل لكيانهم. في المعمودية المقدسة، نحن نصير أعضاء في جسد المسيح، بلبسنا إياه، كما يقول الرسول بولس: «لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح» (غل 3: 27). إن لبس الروح القدس ليس خارجيا أو سطحيا، بل داخلي كاتحاد الحديد بالنار، حيث يكون الحديد المحمى مشتعلا بكليته. هكذا الذين يحصلون على الروح القدس، يشعرون به يملأ قلوبهم، وينير أعينهم، ويقدس آذانهم، ويخمد أفكارهم السيئة، فيمنحوا الحكمة ويمتلئوا بالنعمة. يعلم القديس ذياذوخوس أننا بالمعمودية نحصل على الروح القدس في قلبنا، ونصبح أعضاء في جسد المسيح، لكننا نحجب هذه النعمة بالأهواء، دون أن نفقدها كليا. لذلك علينا أن نرمي رماد الأهواء ونلتهب كالجمر بتطبيق الوصايا. ولكي يلتهب الجمر بشرارة النعمة المقدسة، علينا أن ننفخ بقوة قائلين: «ربي يسوع المسيح ارحمني”.
وقال: “في هذا العيد المبارك، نسأل الروح القدس أن ينير عقول مسؤولي بلدنا لكي يعرفوا أن يميزوا بين الخير والشر، ويعملوا من أجل الخير والحق والعدل والصلاح. دعاؤنا أن يفهموا أن السفينة لا تسير بلا ربان، وتصبح قابلة للغرق في أية لحظة، فكم بالحري سفينة لبنان التي تفتقر إلى ربان، وإلى طاقم ذي اختصاص يعاونه. من يعمل على إنقاذ البلد، ومن يدفع نحو الإصلاحات الضرورية، ومن يطبقها، إن لم يكن هناك رئيس وحكومة؟ الأحداث تتسارع في المنطقة، والدول تستجيب لمصالحها ولحاجات أبنائها. وحده لبنان محكوم بالفراغ والضياع والغموض، فيما شعبه يعاني وموارده تستنزف. نحن بحاجة إلى رجاحة العقل وبعد النظر، إلى حسن النية وسعة الصدر. التعطيل لم يعد يجدي والإستعلاء والهيمنة لا تقودان إلى مكان آمن بل تولدان ردة فعل سلبية ضارة. من هنا ضرورة التعقل وتقديم المصلحة العامة على كل مصلحة. لولا نعمة الروح القدس المعزي لكان وضع الناس أسوأ مما هو عليه. إننا مؤمنون، لا بل واثقون بأن يد الرب تعمل بقوة في هذا البلد، لكن الرب ينتظر منا العمل الدؤوب والسعي نحو الخلاص، كما ينتظر عودتنا إليه، بعد سقوط الغشاوة عن عيوننا وإدراكنا أن الخلاص به وحده”.
وختم: “حفظكم الله، الثالوث القدوس، بنعمته الإلهية كل حين، وأغدق عليكم بركاته، وأنار عقولكم وقلوبكم وكل كيانكم، لكي تسيروا بمقتضى وصاياه، عاملين لخلاص نفوسكم بتوبة وتواضع ومحبة، بهدي الروح القدس”.
Related Posts