عندما أغادر المبنى الذي أسكن إحدى شقَقه في طرابلس اللبنانية وأتجه شمالاً – شمالاً؟ أي صحيح – قاصدة الشارع الرئيسي الذي يمتد بين طرفي المدينة من مستديرة الحلاّب – قصر الحلو – وصولاً إلى الميناء، يصادفني رصيفان يتفاوتان في العلوّ، الأول يقع على مدخل “سيتي كومبلكس” غير متناسب الأجزاء بين مرتفع في بعضها ومنخفض في البعض الآخر، أمّا الثاني فهو أعلى من مستوى الرصيف الآخر، مسألة الهندسة المُدنية كارثية فعلاً، ولا تختلف بيروت، إذا كنت تريد الوصول مشياً من شارع رشيد كرامي (فردان سابقاً) إلى كورنيش المنارة فستصادفك مستويات غير متناسبة، رأس بيروت، فوق فوق، لستُ خبيرة في تخطيط الشوارع، المصيبة إذا كنت ستعود إلى فردان سابقا مشياً، وقد بلغت من العمر عتيَّاً، فستتهاوى من حدّة الصعود.. الرصيف الثاني في طرابلس الأعلى من الكائن على مدخل سيتي كومبلكس، الكائن عند مدخل موقع سكن محمد نديم الجسر، وحيث كان آل القبطان يسكنون طابقه الأرضي، ليس بتلك الحدّة، لستُ متأكدة في أي يومٍ نحن من أيام الأسبوع، كل الخبر عند خالد زيادة، فقد روى في يوم الجمعة يوم الأحد خصائص طرابلسية عن هذين اليومين، مفكّر، عالم اجتماع، مرجع للعاملين حول تاريخ المدن العربية في مواجهة الحداثة، وربما – ليس ربما بل من المؤكد هو مَن يمتلك القدرة على تكوين وتحضير وتشكيل وتجميع، وماذا أيضاً على وزن فعيل؟ ملف طرابلس عاصمة الثقافة العربية.
أوجّه تحية حارّة إلى روح الراحل نزيه كبارة، نشر في جريدة البيان الطرابلسية برنامج عملٍ لأجل طرابلس عاصمة الثقافة، رئيساً للمجلس الثقافي للبنان الشمالي، رئيساً نزيهاً، لم يُكتب لطرابلس أن تكون، ولم يُطرح المخطط النزيه للنقاش، اليوم تعود لازمة طرابلس عاصمة للثقافة، واللازمة تكرارٌ في سلّم موسيقى التلحين والغناء، تحافظ اللازمة على وتيرتها بلا تعديل، تظهر بين حين وحين، تِبعاً لعبقرية المؤلف والموزّع وقائد الاوركسترا، من بين ثنايا كلام ونوتات المقطوعة، تجتمع العبقريات متآزرة، ليس من المبالغة استعمال مصطلح العبقرية، استعيدوا مشهد الاوركسترات في الكنائس الأوروبية تعزف متآزرة متكاملة، أعتقد أن ملينا ميركوري وزيرة الثقافة اليونانية استوحت شيئاً من هذا في العام 1985 وعملت مع وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغ لوضع شروط إعلان مدينة – أي مدينة – عاصمة الثقافة، منذ إعلان أثينا عاصمة الثقافة والفكرة تأخذ كل عام وجوهاً متجددة، ليست أوروبا وحدها لتأخذني، إن في عمق وجداني أمرٌ حيّ، لا زالت عكاظ و”مهرجان” المعلّقات على جدار الكعبة ومشاهد تلك الحركة الثقافية، ومفاعيلها التنافسية بين عبقرية الشعراء والقوافل والتجار، ماثلة، ومن غير الدخول في التأويل، فإن الإنتقال من الشعر إلى الرواية يحتفظ لنا بكينونةٍ ثقافية، طرابلس ليست دبي، ليست الرياض، ليست أبو ظبي، ولكنها تمتلك مقومات تجعلها مستحقة أن تكون عاصمة الثقافة..
حين ينسلخ السياسيون عن هذا الحدث، فإن لهم ما يبررانسخلاهم، تحدثهم عن همذاني، توحيدي، متنبي، حمداني، الجاحظ، طه حسين، النعّاس وروايته الفائزة بجائزة البوكر للعام 2022، وهو ليبي شاب يقتحم عالم الرواية، تطلب منهم مساعدتك لاستضافته في خان العسكر، هراء، تحدثهم عن منشورات المجلس الثقافي للبنان الشمالي، أيام النزيه، تناقشهم في مفهوم الحداثة، هراء، تحكي لهم عن القلعة، سيصفعونك بورقة عمل تقدمها لهم لأجل العاصمة الثقافية، لا مشكلة، زُبدة المطلوب تعزيز الإقتناع بأن المعرفة قيمة كبرى، أنا من جهتي لا أخوضُ هنا في تفاصيل ما قدمته الهيئات المدنية في أثناء السنوات الأخيرة من منجزات في موضوع العاصمة الثقافية، لي مع ذلك أن أوصي بالمساعدة على أخذ قرارٍ بوقف الكلام السائب المنتشر، فالراهن أن المتابعين يصرخون، ثمّة إذن صرخةٌ، وقد يكون لا وجاهة، مطلقاً، في الشكوى.
Related Posts