ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “إن شخص المسيح هو مركز تاريخ العالم بأسره، فهو الألف والياء، الأول والآخر، البداية والنهاية” (رؤ 22: 13). لذلك، تختلف مسيرة المؤمنين المسيحيين الروحية عن مسيرة سواهم من البشر. هدفهم ليس أن يكتشفوا ما لا نعرفه من نواميس الطبيعة، ولا أن يبتكروا أنظمة ترمي إلى إصلاح المجتمع لكنها بعيدة عن وصايا المسيح. كذلك، هم لا يفتشون عن علة الكون في مبادئ مطلقة، ولا هدفهم أن يذوبوا كقطرات تتلاشى في محيط الوعي الكوني، غير الموجود. المؤمنون لا يرغبون في الإمحاء من الوجود، كما لا يقبلون الخضوع لنواميس طبيعية لا شخصية. حياتهم مركزها المسيح الذي أتى وسيأتي أيضا، الحاضر في العالم، والمنتظر في الوقت نفسه، إذ تربطنا به علاقة شخصية حية تشمل معاني الحياة كلها. المسيح هو “الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6)، أي إن مركز العالم شخص واحد هو في الوقت نفسه إنسان مثلنا ورب ضابط الكل: إنه الإله-الإنسان.
أضاف: “لم يدرك المسيحيون كلهم حقيقة شخص المسيح. ففي تاريخ الكنيسة، ظهر عدد كبير من الحكماء والفهماء بحسب العالم، لم يستطيعوا تقبل إيمان الكنيسة ببساطة قلب. منهم من تأثر باليهودية، ومنهم بالفلسفة اليونانية، فأفسدوا الإيمان وعلموا الشعب تعاليم هرطوقية. حينئذ، واجهت الكنيسة الهرطقات بتعاليم الآباء القديسين الملهمة من الله، الذين اجتمعوا في مجامع، وحددوا الإيمان المستقيم بمصطلحات لها سلطة جامعة. أهم تلك المجامع ما أعطي صفة المسكونية، وهي التي دعا إليها أباطرة وشارك فيها ممثلون عن الكنائس المحلية كلها. إن انعقاد أحد المجامع، مع مراعاة الشروط القانونية كلها، لا يضمن استقامة رأيه، لأن الضمانة في الكنيسة هي الآباء القديسون الذين تتبعهم المجامع.
المجمع لا يصنع آباء بل يتألف من آباء، لذلك هو ملهم من الله. الكنيسة، في تعييدها للمجامع المسكونية، واليوم نعيد للمجمع الرابع، تريد أن تظهر بلهجة قاطعة الإيمان القويم بشخص المسيح، وفي الوقت نفسه تود تكريم الآباء القديسين الذين عقدوها. التعييد لهم يعني إعترافا بالإيمان وعرفانا بالجميل. نعترف بإيمان المجامع المسكونية، ونشكر الله الذي أعطانا الآباء أنوارا على الأرض، فنمجده. لم تقم المجامع المسكونية بحل الناموس الذي عاشت الكنيسة بموجبه، إنما كملته بصياغتها له كي تؤمن على حياة أعضائها. عبرت في ظروف مختلفة عن الحقيقة القائلة إنه في المسيح “يحل ملء اللاهوت جسديا” (كو 2: 9). لهذا سمعنا اليوم في الإنجيل قول الرب يسوع: “لا تظنوا أني أتيت لأحل الناموس والأنبياء، إني لم آت لأحل لكن لأتمم”.
وتابع: “قبل أن يعطي المسيح وصاياه التي تفوق الناموس القديم، قال إنه لم يأت ليلغي تقليد موسى والأنبياء، بل جاء ليكمله. هكذا، أراد أن يتدارك حدوث اضطراب لدى الذين آمنوا بأن الناموس هو من الله، ولو لم يحفظوه. إن كلام المسيح هذا له مضمون لاهوتي، لكن لنا أن نعطيه أبعادا إجتماعية. فقبل التجسد، كان المسيح يكشف ذاته للأنبياء بصفته “الكلمة”، ويلقنهم تدريجيا معرفة الله الثالوث. إذا، الناموس القديم هو عمله الخاص، ولو ألغاه لناقض ذاته. فقد جاء ذلك الناموس بما يناسب قسوة قلب الشعب، لذلك لم يكن كاملا. أشار إلى الخطيئة وتكلم بأمثال جسدية. هيأ الشعب لحضور المسيح، حتى يقدر أن يستشف ألوهيته من خلال حضوره الجسدي. بمجيئه، كمل المسيح الناموس ولم يبطله. كشف معناه الحقيقي، وحوله من جسداني إلى روحاني، بحيث لا يتوقف عند الإشارة إلى الخطيئة، بل يتقدم إلى تأمين شفائها. لقد أخذ المسيح طبيعتنا البشرية وقدمها إلى الله الآب خاضعة مطيعة، فجعلها مصدرا لنعمته، وسلمنا إياها كمأكل ومشرب. جعلنا بالمعمودية ومسحة الميرون أعضاء جسده المقدس. البعد الإجتماعي لما قاله المسيح بأنه “لم يأت ليحل” مهم جدا من أجل تطور المجتمع الطبيعي. ونحن كمسيحيين مؤمنين، ليس دورنا أن نلغي ما ينقص بل أن نكمله.
الإنسان، في كل مجالات أنشطته، يخطئ بسبب مفهومه المغلوط للخير، حتى إنه في الخطيئة يطلب الخير. في عالم يرى اللذة أو الطمع أو الربح الكثير أو الثأر من الأعداء أمورا حسنة، لا بد أن نذكر بضرورة ضبط الأهواء الجسدية، وبحلاوة الملذات الروحية، وبالإكتفاء والقناعة من جهة الخيرات المادية، وبالشغف بالروحيات. كما يجب أن نلفت إلى كبح الغضب المدفوع من المصلحة الشخصية، لا “الغضب الكلي العدل” الواجب ضد كل خطيئة وانحراف عن الحق، متذكرين قول الرسول: “إغضبوا ولا تخطئوا” (أف 4: 26)”.
وقال: “إن عبارة “لم آت لأحل” تثنينا عموما عن النقد العقيم، وتحثنا على العمل الإيجابي. هذه عقلية آباء المجامع المسكونية الذين لم يترددوا في استعمال مصطلحات الفلسفة اليونانية لكنهم كملوها بمضمون مستقيم إيمانيا. أتى المسيح ليكمل الناموس، وبحسب الرسول بولس: “المحبة هي كمال الناموس” (رو 13: 10). لقد كشف لنا المسيح حقيقة الله والإنسان. أظهر لنا أن الحق يتماهى مع المحبة. هذا يعني أنه ما من حق خارج المحبة، وما من محبة خارج الحق، ذلك لأن المحبة ليست شعورا ظاهريا، ولا الحق هو أمر يتعلق بالمنطق الجامد. معرفة الحق هي الدخول في شركة مع المسيح الإله والإنسان. ومن خلال تحديدها للإيمان الصحيح بشخص المسيح، حفظت المجامع المسكونية شروط المحبة الخالصة، ومنحتنا فرصة الخلاص الذي هو الشركة مع المسيح والاتحاد به”.
أضاف: “إننا في هذا البلد الحبيب نفتقد الحق والمحبة معا. فلو كانت هناك محبة لما وصلنا إلى أسفل الهاوية بسبب الأنانيات، والمطامع الشخصية، وتقاذف المسؤوليات، والمغامرة بالبلد دون وجل. لو وجدت المحبة لما تغاضى أحد من المسؤولين عن آلام الشعب، ولما مرت سنتان تقريبا من دون إحقاق الحق وإظهار الحقيقة في تفجير هو من الأضخم عالميا. لو كانت المحبة مقياسا للتعامل في بلدنا، لما أصبح الشعب يتوسل الرغيف، ولما ذل في كل مبتغى له هو من بديهيات الحياة. يكذب كل من يدعي المسيحية ويفتقد المحبة، التي يجب أن تظهر من خلال أعماله المحقة والعادلة. من يحب البلد يسعى إلى تأمين مصلحته، ولا يدخله في أي نوع من المخاطر عبر تعطيل المؤسسات أو إرباك عملها، وعبر التدخل في عمل الإدارة والقضاء، وتقديم مصلحته على حساب المصلحة العامة، أو عبر مناوشات حينا وتهديدات أحيانا، قد لا تحمد عقباها، وقد تجر الجميع إلى ما بعد الجحيم، رغم إرادتهم. سمعنا في إنجيل اليوم: “أما الذي يعمل ويعلم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السموات”. الكلام وحده لا يغني الفقير ولا يطعم الجائع ولا يشفي الحزين والمريض. العمل بصمت ومحبة هو الذي ينتج ثمارا ويترك أثرا في النفوس. نحن بحاجة في هذا البلد المنكوب إلى عملة يصبون اهتمامهم على الخدمة والإنقاذ والعمل المجدي، يصلحون مكامن الخطأ، وعوض تهشيم الغير يعملون على إكمال الناقص وإتمام الواجب، واضعين نصب أعينهم هدفا واحدا هو انتشال البلد من الهوة، وإنقاذه، والتقدم به إلى الأمام عوض إغراقه”.
وتابع: “سمعنا قول الرب لتلاميذه: “أنتم نور العالم… فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات”. كيف يكون نورا من يظلم ومن يسرق ومن يحفر حفرة لأخيه أو لوطنه؟ كيف يكون نورا من هو مجبول بقبيح الخطايا، ومن هو معرض للوهن والضعف والسقوط أمام مغريات الدهر الخداعة؟ رب قائل نحن نمات يوميا ونختنق في جحيم الهموم المعيشية واليأس والقلق على المستقبل فأين النور؟ يقول القديس ديونيسيوس الأريوباغي: “إن الله يقيم في عتمة الديجور لأنه نورها. إنه النور القائم في النور على الدوام”.
وختم: “نحن نحيا بسبب نور الرب الموجود فينا والذي لا ندرك دوما وجوده. حتى في لحظات الخطيئة والضعف والسقطات يستمر نور الرب فينا لأن ظلمة الخطيئة لا تحجب نور الله. فلينتبه كل منا إلى حضور الله فيه، وليعمل بهدي هذا النور ليقدس نفسه، والعالم فيصبح فسحة مزروعة بمنارات الفضائل، ولنحفظ الإيمان الذي حدده لنا آباء المجامع المسكونية المقدسة، ونحب الجميع بلا تفرقة، لأنه بالمحبة نكمل الناموس”.
Related Posts