التفاتة الى الشرق: نظرة نحو كازاخستان (2)… إيمان درنيقة

في دول ترزح تحت عبء أنظمة ديكتاتورية أوليغارشية مذلّة لكرامة الناس ومنتهكة لحرياتهم وحقوقهم الأساسيّة، وفي دول تغيب فيها دولة القانون ويتقونن فيها الاستئساد السياسي وينتشر فيها الفساد، قد يعتقد البعض أنّ الحل هو باندلاع الثورات أو إقامة التظاهرات والانقلابات، وقد يتخيل البعض الاخر أن الحل يكمن بإقامة مستشفىً وعيادات سياسية، على شاكلة المستشفيات الطبية، لمعالجة العمل السياسي المشوّه، أما بالنسبة لرئيس جمهورية كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، فقد كان له رأيٌ آخر…

بعد الفوضى العارمة والاحتدامات الدامية الّتي وقعت في يناير الماضي في كازاخستان بعد إقدام الحكومة على زيادة أسعار غاز البترول المسال بشكل كبير، رأى توكاييف أنَّ الطريق الرئيس للإصلاح هو بتعديل الدستور، فتغيير الدستور هو تغيير بنيوي، سلمي وجذري، وعلى كلّ قائد يريد أن يقوم بإصلاحات قانونيّة، أن يبادر الى تعديل الدستور، فالدستور هو التشريع الأم والسلطان الأساسي المعبّر عن سياسات الدول وحياة شعوبها، ويجب بالتالي أن يكون مانعًا لكل “فيروسات” الإفساد.

ومن هذا المنطلق، دعا الرئيس توكاييف شعبه الى الاستعداد لخوض استفتاء لتعديل 30 مادة من مواد الدستور الكازاخي- ما يعادل ثلث الدستور، الأمر الذي رأى فيه فرصة التحوّل الاساسية في تاريخ البلاد نحو المرحلة التي أُطلق عليها “كازاخستان الجديدة”.

سعى توكاييف الى توفير كل الامكانات وأفضل الظروف والشروط المادية والنفسيّة لتمكين المواطن من قول كلمته الفاصلة في مستقبل وطنه.

في الاطار النظري‏، فإن الدساتير تتمتع عادة بالثبات والاستقرار، والكثير منها تبقى سارية المفعول لوقت طويل دون أي تغيير، إلا أنّه يمكن للدساتير أن تعدّل إذا دعت الضرورة إلى ذلك، أي كمبادرة إصلاحية! والتعديل يكون بثلاثة طرق، امّا بالطريق النيابي (غير المباشر) بواسطة ممثلي/ نواب الأمّة، أو من خلال إعطاء سلطة التعديل للسلطة التأسيسية المنشأة التي يحددها الدستور، أو من خلال إعطاء سلطة التعديل للشعب ذاته، أي بالطريق المباشر بموافقة الشعب (الاستفتاء).

وهذه الطريقة هي الأقوى لانها تضمن التعديل، اضافة إلى شرعيته الدستورية، شرعية شعبية.

وهذا تماما ما أراده توكاييف من خلال تعديله للدستور الكازاخي عن طريق الاستفتاء، فقد أراد توكاييف أن يشارك الشعب كله وبنفسه – وليس عن طريق ممثليه (النواب) – في ازاحة وتغيير المواد الدستورية الجائرة و”تغيير صيغة العلاقة بين الدولة والشعب ومنح الأولوية لحقوق الانسان”.

ومن بين التعديلات التي تتضمنها مسودة الدستور الجديد، أن “أرض كازاخستان وثرواتها الطبيعية هي عائدة للشعب” وليست “ملكا للدولة” كما في دستور 1995 كما تنص التعديلات على حظر تعيين المسؤولين بشكل عام وأقرباء الرئيس على وجه الخصوص في أي منصب من المناصب العليا في الدولة. ويحظر الدستور الجديد على رئيس البلاد الانتماء إلى أي حزب سياسي طوال فترة توليه منصبه.

وبالمقارنة مع لبنان، فإنّنا نجد أنّ الدستور اللبناني يتطلب تعديله إجراءات مشدّدة منصوص عليها في المواد ٧٦-٧٧-٧٨-٧٩ من الدستور اللبناني، وهو قد تعرّض منذ صدوره لبعض التعديلات، تحديدا عام ١٩٢٧، ١٩٢٩ وعام ١٩٤٣ و١٩٤٧، الا أنّ هذه التعديلات كانت فقط للتخلص من الإنتداب الفرنسي دون النظر إلى تطوّر القوانين اللبنانية، باستثناء التعديل الدستوري الكبير في١٩٩٠، الذي جاء تحت عنوان وثيقة الوفاق الوطني، والذي بقي بمثابة فرصة لبنان الضائعة نحو الاصلاح والازدهار.

وعليه، فإن الالتزام بالميثاق والتقيّد بأحكامه هو القاعدة الأساسية لبناء دولة القانون في لبنان، وهو يتقدّم في تراتبيّة المعايير القانونيّة على التعديل او الاستفتاء العام وعلى رأي الأكثرية والأقليّة.

ومع ذلك، يمكننا أن ننظر في التعديلات التي جرت في كازاخستان ونأخذها في عين الاعتبار وعلى رأسها تلك التي تحظر انتماء الرئيس إلى أي حزب سياسي وتمنعه وأقاربه والمسؤولين أيضا من تولّي مناصب قيادية في مؤسسات الدولة خاصة أنّنا في لبنان نعاني من مشكلة نظام حكم قائم على بدعة المحاصصة بين المالكين من الأولياء والزعماء ورؤساء الطوائف الذين يملكون أيضا شركات ومؤسسات كبرى..

لا شك في أن استبعاد الأهواء والمصالح الشخصية عند المسؤولين بعدم السماح لهم بالاستئثار بمقاليد السلطة ومقدّرات البلد وتوزيعها بينهم وبين أقاربهم أمر اساسي، فالوطن أوسع من رقعة جغرافية وأكبر من حصص ومصالح.

التفاتة الى كازاخستان قد تكون مفيدة لنا لنخطو الخطوة الأولى في مشوار الألف ميل نحو تعافي لبنان المأمول…

الكاتبة: إيمان درنيقة الكمالي

أستاذة جامعيّة

باحثة في العلوم السياسيّة


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal