تعود أسباب عداوة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للغرب إلى “تاريخ روسيا بأكمله” وستظل هذه العداوة “مستمرة لفترة طويلة”، وفق تقرير نشر على موقع فورين بوليسي.
واستعرض تقرير المجلة المطول الأسباب الحقيقة لموقف بوتين المعادي للغرب، الذي قالت إنه أبعد من مجرد استعادة أمجاد الحقبة السوفييتية بل يرتبط بفكرة روسيا كإمبراطورية لا تعرف حدودا معينة، كما أنها أيضا مرتبطة بتاريخ شخصي لبوتين الذي كان طفلا أثناء الحرب العالمية الثانية ,ويعمل بالمخابرات الروسية عند تفكك الاتحاد السوفييتي.
ويلفت التقرير إلى أن هذه الأفكار ليست حكرا فقط على بوتين فقط، ولكن تتشاركها النخبة التي دعمته على مدى عقدين من الزمن.
وحتى لو تمت الإطاحة ببوتين، فإن الجنرالات وكبار المسؤولين الأمنيين المحيطين به سيكونون عدوانيين أيضا تجاه الغرب.
ويشير التقرير إلى كتابات فلاديسلاف سوركوف، الإيديولوجي التابع للكرملين، الذي كتب بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 أن ذلك سيشكل “نهاية رحلة روسيا الملحمية إلى الغرب، وتوقف المحاولات المتكررة وغير المثمرة لتصبح جزءا من الحضارة الغربية”.
وتوقع أن تعيش روسيا في عزلة جيوسياسية لمئة عام قادمة على الأقل.
ويقول التقرير إن بوتين وأنصاره اعتبروا أوكرانيا، “الأمة الشقيقة التاريخية”، الخط الأحمر الأخير في “سلسلة طويلة من الإذلال الغربي”.
وتعود هذه الإهانات المتصورة إلى أمد بعيد: ليس فقط خلال الثلاثين عاما التي انقضت منذ انتهاء الحرب الباردة، ولا خلال المئة عام منذ تشكيل الاتحاد السوفيتي في عام 1922، لكن إلى عصر التنوير الأوروبي، أي منذ أكثر من ثلاثة قرون مضت.
وهذه الحركة الأوروبية أدت إلى ظهور فكرة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن بالنسبة للقوميين الروس مثل بوتين، فإن هذه التطورات قد طغت تدريجيا على الطابع المميز لروسيا كحضارة.
ولا يرى بوتين نفسه باعتباره وريثا للسوفييت، ولكن باعتباره نصيرا للحضارة الروسية وإمبراطورية موسكو الأوراسية، التي تمتد جذورها إلى الأمير فلاديمير الأول، في الفترة من سنة 980 إلى 1015 ميلادية.
وكان فلاديمير حاكما لما يعتبره الروس إمبراطورتيهم الأولى، وهي الدولة السلافية المعروفة باسم “كييف روس” ومقرها كييف، عاصمة أوكرانيا الآن.
وأدى تحول فلاديمير إلى المسيحية عام 988 إلى ظهور فكرة أن روسيا ستكون “روما الثالثة”، وستكون وريثة الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية التي سقطت بعد استسلام القسطنطينية للعثمانيين.
ولهذا السبب، يشير العديد من الروس، مثل بوتين، إلى “كييف روس” على أنها “مهد الحضارة الروسية” وكييف على أنها “أم المدن الروسية”.
ويهدف التركيز التاريخي لبوتين أيضا إلى نقل إيمانه الراسخ بأن روسيا تمثل حضارة متميزة لا تشترك كثيرا مع الغرب.
وتقول كيلي أونيل، المؤرخة بجامعة هارفارد، إنه يتبنى أيديولوجية إمبريالية ضد ما يرى أنه “نزعة تافهة” للغرب و”فساد” ديمقراطياته.
وأشارت إلى أن إحجام بوتين عن الاندماج الكامل لروسيا الحديثة في الاقتصاد العالمي، بخلاف بيعها الكثير من النفط والغاز، يستند إلى الاعتقاد “الأوراسي” بأن روسيا والأراضي التابعة لها “اقتصادات متميزة تنتمي إلى هذا الكل الإمبراطوري الجميل. إنها آلية دفاعية. إذا قمت بالاندماج، فإنك تصبح أكثر عرضة للخطر. وجهة نظرهم هي “نحن حصن روسيا. لسنا بحاجة إلى أي شخص آخر”.
ويشير التقرير إلى سبب آخر وهو “الاعتقاد الروسي بأن المسيحية الأرثوذكسية تتفوق على المسيحية المتحررة في الغرب”، التي يعتبرها بوتين وغيره من الروس المحافظين “فاسدة” بفعل أفكار التنوير.
وفي أوائل القرن التاسع عشر، كان الرد الروسي على عقيدة التنوير للثورة الفرنسية التي نادت بـ”الحرية، المساواة، الأخوة” هو “الأرثوذكسية، الأوتوقراطية، والقومية”.
وقد اعتبرها سيرغي أوفاروف، وزير التعليم العام في عهد القيصر نيكولاي الأول، الأساس التعريفي للإمبراطورية الروسية.
وبينما لم يتم ذكر هذه العقيدة الثلاثية في خطابات وكتابات بوتين، لأنه لايزال يحب التظاهر بأن روسيا ديمقراطية، استشهد بها كتاب يمينيون متطرفون يمتلكون تأثيرا على الرئيس الروسي.
ويقول بيتر إلتسوف، الأستاذ بجامعة الدفاع الوطني الأميركية: “تشرح صيغة أوفاروف سبب قيام روسيا دائما بإعادة إحياء إمبراطورية استبدادية في فترات الأزمات، كما فعلت بعد الثورة البلشفية عام 1917، والآن في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي”.
وبالنسبة لبوتين، تبدو فكرة إعادة بناء “إمبراطورية أوراسية” تحت حكمه، التي يجب أن تكون أوكرانيا جزءا منها، فكرة أساسية لشعوره بأنه قائد.
ويشر التقرير إلى روسيا، وهي أرض شاسعة تمتد عبر أوروبا وآسيا، لم تكن قادرة على تحديد ما إذا كانت أوروبية أو آسيوية أكثر، ولم تستطع تاريخيا الاتفاق على ما يجب أن تكون عليه حدودها.
توماس غراهام، الدبلوماسي الأميركي السابق، قال إنه “لم تكن هناك دولة قومية روسية في التاريخ. إنها كانت دائما إمبراطورية نوعا ما. حدود روسيا اليوم، هي إلى حد كبير حدود روسيا في عام 1721، العام الذي تأسست فيه الإمبراطورية بالطريقة التي يرونها الآن. أدى عام 1991 إلى القضاء على ما يقرب من 200 إلى 300 عام من التقدم الجيوسياسي”.
وكان الهدف الرئيسي لبوتين في منصبه هو عكس هذا الاتجاه قدر الإمكان. أو كما قال سوركوف في عام 2019: “بعد الانهيار من مستوى الاتحاد السوفيتي إلى مستوى الاتحاد الروسي، توقفت روسيا عن الانهيار ، وبدأت في التعافي والعودة إلى حالتها الطبيعية، ولذلك “ستعود روسيا قريبا إلى مجدها السابق وإلى المرتبة الأولى في الصراع الجيوسياسي”.
ويرى غراهام وخبراء روس آخرون إنه من الخطأ النظر إلى بوتين على أنه مجرد عضو سابق في المخابرات السوفييتية غاضب ومستاء من سقوط الاتحاد السوفييتي و”تعدي” حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الباردة.
إن بوتين “هو بالأحرى قومي روسي أوراسياني”، ويجب اعتبار استحضاره المستمر للتاريخ الذي يعود إلى “كييف روس”، أفضل تفسير لوجهة نظره القائلة بأن أوكرانيا يجب أن تكون جزءا من مجال نفوذ روسيا .
وفي مقال له نشر في تموز الماضي، وصف بوتين فكرة إنشاء دولة أوكرانيا بأنها مثل “استخدام أسلحة الدمار الشامل” ضد روسيا.
ووصف بوتين أوكرانيا بأنها معقل تاريخي للشعب السلافي وحذر الغرب من محاولة قلبها ضد روسيا. وكتب في المقال: “لن نسمح أبدا باستخدام أراضينا التاريخية والأشخاص القريبين منا الذين يعيشون فيها ضد روسيا.. وللذين سيشرعون في محاولة مماثلة، أقول لهم إنهم بهذه الطريقة سيدمرون بلادهم”.
ويقول التقرير إنه بعد فترة ديمقراطية وجيزة في عهد سلفه في عهد بوريس يلتسين، لم يُظهر بوتين أي تعاطف مع النظام الغربي وركز على فكرة إعادة رسم الحدود والقوة.
وكان بوتين مدفوعا بشكل أساسي بمفهوم استراتيجي قديم، تبناه نابليون بونابرت، وأدولف هتلر، وهو الحاجة إلى “عمق استراتيجي”.
وبالنسبة لبوتين وللعديد من الروس، كان الحدث المميز في حياتهم هو صدمة غزو هتلر وموت عشرات الملايين من أبناء وطنهم. وقد شبه ذلك بحرب نابليون على روسيا في القرن السابق.
ويشير وعد بوتين “الغريب” بـ”إزالة النازية” من أوكرانيا رغم أن الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، يهودي، إلى أنه يعتقد أنه يعتقد أنه لايزال يخوض الحرب العالمية الثانية، التي انضم فيها عدد كبير من الأوكرانيين إلى النازية.
ويعتقد بوتين أن معركة الحلفاء ضد النازيين انتصار روسي إلى حد كبير.
وتقول مارلين لارويل، الباحثة الروسية في جامعة جورج واشنطن للمجلة: “ربما يعتقد فعلا أنه يعيد إنتاج الحرب، ويقاتل ضد النازية مرة أخرى”.
ويقول العديد من الخبراء الروس إنه يجب النظر إلى بوتين على أنه آخر قيصر لروسيا.
الجدير بالذكر أن الغزو الروسي أدى إلى تأجيل الإدارة الأميركية إصدار استراتيجية الأمن القومي الأميركي، وفق التقرير.
ويقول مسؤولون أميركيون إن التأخير جاء ربما للتركيز على تحديات جديدة بعد الغزو، مثل إعادة تنشيط دور الناتو والتحالف الغربي وعسكرة دول الاتحاد الأوروبي الكبرى مثل ألمانيا.
وكان الرئيس الأميركي الراحل، جون كينيدي، قد قال إن الولايات المتحدة تعيش “صراعا طويل الأمد” مع موسكو .
وفي كتابه: “من الحرب الباردة إلى السلام الساخن.. سفير أميركى في روسيا بوتين”، يشرح السفير الأميركي السابق، مايكل ماكفول، الذي عمل خلال إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، وشارك في صياغة سياسة “إعادة ضبط العلاقة” مع روسيا، أن هناك “صراعا أيديولوجيا جديدا بين روسيا والغرب، ليس بين الشيوعية والرأسمالية ولكن بين الأوتوقراطية والديمقراطية “.
المحللة المختصة بالشأن الروسي، آنا بورشفسكايا، قالت سابقا لموقع الحرة أن بوتينيؤمن بنظام عالمي “مختلف تماما عن النظام الليبرالي القائم على القواعد الذي تقوده الولايات المتحدة. وهو يعتقد أن الدول الصغيرة، مثل أوكرانيا، ليست دولا حقيقية تتمتع بسيادة” ولا تعتقد أنه سيتراجع عن موقفه الآن، متمسكا بهذه العقيدة.
Related Posts