ربينا أولادنا على أن الوطن ليس بفندق نغادره ساعة نشاء..
قلنا لهم أن الأرض أم، وأن بيت الاجداد الذي ورثناه يجب أن نورثه لأبنائنا ليترحموا عليهم ولتستمر ذكراهم..
علمناهم أن يعشقوا اغاني فيروز والرحابنة وأن خبطت اقدامنا على الارض هدارة ومتى اراد الشعب الحياة فلا بد ان يستجيب القدر..
يبدو أن كل ما حفرناه في ذاكرتهم ذهب سدى بفعل حكام فاسدين ومسؤولين ليس لديهم ادنى حسّ بالمسؤولية فأوصلوا لبناننا الى هذا الدرك من الإنحدار.
سنوات طويلة حرمنا انفسنا من اشياء كثيرة لنجمع اقساط المدارس والجامعات الخاصة لأن معظم صروحنا التربوية الوطنية متروكة ومهولة، جئنا بالقلم قبل الرغيف وبالدفاتر والكتب قبل الحلويات، واقنعناهم أن بلدنا يستأهل ان نعيش فيه وأن ادمغتهم الكفوءة كفيلة بتطويره وأن الهجرة ليست دائماً الحلم والثروة اذ في بلدنا مقومات اذا عرفوا كيف يستثمروها لحصدوا اكثر من امانيهم في اي بلد اخر.
قلنا لهم الكثير ورسخنا في وجدانهم مبادىء واسس نحن اليوم نتساءل في سرنا كيف كنا اغبياء كل هذه السنين، ولماذا لم نفعل مثلما يفعلون هم اليوم؟.
أولادنا بمعظمهم حزموا حقائبهم وقرروا الرحيل، منهم للعمل ومنهم للدراسة والجميع لن يعود إلا ضيفاً على وطنه لصيفية او عيد، ليعود الى حيث اختار أن يعيش بأمان وكرامة.
بنظرة سريعة على مراكز الامن العام والكم الكبير من جوازات السفر، وبجولة بسيطة في مطار بيروت وزحمة المغادرين فيه، نلمس مدى حجم ما يخسره بلدنا الذي مهما كان حجم خسارته المادية والاقتصادية لا يمكن مقارنتها مع خسارته البشرية من اطباء وممرضين ومهندسين واساتذة وحقوقيين واعلاميين وخريجي جامعات، ومن بقي هنا ليس تمسكاً بتراب هذا الوطن بل لأنه لم يجد للهجرة سبيلاً.
ماذا يعني ان تحزم حقائبك وترحل تاركاً اهل واقارب كانوا يخافون عليك في الهجرة فيما اليوم انت الخائف عليهم من فقدان الامان والدواء والكهرباء والمستلزمات الطبية، تخاف ان يموتوا لأتفه الأسباب، ربما برصاص طائش وما اكثره هذه الايام، ربما بسلاح متفلت بعد خلاف على افضلية مرور او تعبئة وقود، وربما بلدغة افعى مفقود الدواء الترياق لها، او حتى ربما بعارض صحي بسيط يمكن معالجته بعملية لكنها مكلفة او مفقود البنج.
ماذا تقول لإبنك او إبنتك عندما يُتخذ قرار الهجرة؟ كيف بإمكانك ممارسة فن الاقناع للإقلاع عن السفر وكل ما يحيط بنا يدفعنا الى تقديم أولادنا على طبق من فضة الى غربة قد تكون ارحم لهم من حضن اهلهم الذين باتوا يمضون لياليهم في قلق على مصير ومستقبل فلذات اكبادهم في بلد اعادوه حكامه الى العصر الحجري ولا زالوا يتناتشون ما تبقى من فتات على طاولته التي كانت حتى الامس القريب ممدودة للحبيب والغريب.
في كل بيت صرخة وجع، هناك بيوت غادر كل أولادها، هناك بيوت ينام أهلها مع الجوع وهناك بيوت تئن من وجع الفاقة والعوز والبطالة والمرض فيما لا يزال البعض من القيمين على البلد يبحث عن حصة طوائفه ومذاهبه ومناطقه في وطن يكاد يفرغ من ابنائه في هجرة جماعية لم يسبق لها مثيل في تاريخه.
اذهبوا يا أولاد بأمان الله الذي لا تضيع ودائعه فهو العليم والسميع والمجيب.
مواضيع ذات صلة: