أعطى الرئيس المكلف نجيب ميقاتي اللبنانيين يوم أمس جرعة جديدة من الأمل بإمكانية تشكيل الحكومة التي ينتظرون ولادتها بفارغ صبر لوقف الانهيار والانطلاق بخطة إنقاذ بات لبنان بأمس الحاجة إليها.
لم تَرُق إطلالة الرئيس ميقاتي مع قناة الحدث أمس لكثيرين من أهل السياسة، فمن يعول على إنهيار البلد بالكامل لتنفيذ أجندات مشبوهة وجد أن مشروعه مؤجل بإعلان الرئيس المكلف أن الاعتذار غير وارد في ذهنه اليوم..
ومن يراهن على تيئيس “إبن طرابلس” وتكبير الحجر عليه ومحاولة إقفال كل الأبواب في وجهه، لمس أنه أمام رجل غير قابل لليأس، وأنه يمتلك سلسلة من المفاتيح تجعله قادرا على إعادة فتح كل الأبواب..
ومن يسعى الى عرقلة مهمته الانقاذية لدفعه الى تقديم تنازلات أو الدخول في تسويات لتشكيل حكومة لا تشبهه، ربما إقتنع أن تلك الشخصية الهادئة تختزن صلابة ولا تحيد عن ثوابت أو مبادئ، وهو سبق وترجم ذلك في حكومتيّ عاميّ 2005، و2011..
على مدار شهر كامل من التكليف، شهد 13 زيارة الى قصر بعبدا، ولقاءات مكوكية لموفدين ومستشارين، وإتصالات ونقاشات ومشاورات، سعى الرئيس ميقاتي الى تقديم رؤيته لتشكيل الحكومة، وهي قائمة على إيجاد فريق عمل وزاري متخصص وكفوء قادر على وقف الانهيار وعلى وضع لبنان على سكة الانقاذ.
وفي قراءة متأنية لهذا الشهر بكل ما تضمنه من تفاصيل، يتبين أن الايجابية التي تعاطى بها ميقاتي منذ تكليفه لم تقابل بإيجابية مماثلة، وأن سرعة التأليف التي أرادها لضخ مزيد من التفاؤل بإمكانية وقف الانهيار فرملتها مطالب وشروط يفترض أنها باتت من الماضي، خصوصا في ظل الظروف البالغة الصعوبة التي ترخي بثقلها على اللبنانيين الذين يفتقدون أبسط مقومات العيش الكريم ويكادون يلفظون أنفاسهم الأخيرة، ما يعطي الأولوية المطلقة لولادة الحكومة وليس لأي أمر آخر.
لم يعدم الرئيس ميقاتي وسيلة لاقناع من يعنيهم الأمر، بأن الآليات التقليدية السابقة لتشكيل الحكومات لا يمكن أن تنطبق على هذا الظرف الدقيق والصعب، خصوصا أن الحكومة العتيدة ستكون تحت المجهر، وهي من المفترض أن تستعيد ثقة المجتمع الدولي لكي تستدرج المساعدات الموعودة، وأن لا تشكل أي إستفزاز للمحيط العربي، وأن لا تضاعف من خيبات الأمل اللبنانية.
هذه المعادلة الثلاثية حاول ميقاتي وما يزال تطبيقها في عملية التأليف، وهو ترجمها بسلسلة سلوكيات لم يفهم البعض مضمونها أو ربما لم يرد فهمها كونها تقطع الطريق على أكثرية المطالب والشروط.
ومن أبرز هذه السلوكيات:
أولا: إن الرئيس ميقاتي إرتضى التكليف لكي يؤلف ويقود ورشة وقف الانهيار والانقاذ، ولم يأت للدخول في محاور سياسية أو تسجيل نقاط أو تصفية حسابات أو تنفيذ أجندات.
ثانيا: إن الرئيس المكلف لم يطلب أي حصة وزارية لنفسه، ليس تنازلا منه عنها أو زهدا فيها، وإنما ليؤكد رفضه لمنطق المحاصصة وعلى قاعدة: “من ساواك بنفسه ما ظلمك”، وإقتناعا منه بأنه هو رئيس الحكومة وهو رئيس كل الوزراء ويمتلك كل المقاليد، وبالتالي فلا حاجة له بأي حصة، وهذا الأمر بنظره ينطبق أيضا على رئيس الجمهورية الذي لا يحتاج الى حصة وزارية كونه رئيس البلد وكل المؤسسات وهو من يترأس مجلس الوزراء في حال حضوره.
ثالثا: التمسك بالدستور الذي يقضي بأن يشكل الرئيس المكلف حكومته وأن يوافق عليها رئيس الجمهورية ويوقع مراسيمها معه، وهذا ما عمل ميقاتي على تطبيقه من خلال عرض الأسماء التي كان يختارها على عون للموافقة عليها.
رابعا: إصرار ميقاتي على رفض توزيع الحقائب كهدايا على التيارات السياسية أو جوائز ترضية ليصار الى إستخدامها والاستفادة منها في الاستحقاقات وخصوصا الانتخابات النيابية، حيث يصر على أن يكون وزيريّ الداخلية والعدل لا لون سياسيا لهما ويتمتعان بالكفاءة والولاء الوطني لتخرج الانتخابات من تحت أيديهما بكل نزاهة وشفافية وديمقراطية، وكذلك بالنسبة لسائر الوزراء.
لا شك في أن الآليات التي يصر الرئيس ميقاتي على إعتمادها في التأليف، من شأنها أن تؤدي الغرض في ولادة حكومة قادرة بالفعل على وقف الانهيار وإجتراح الحلول وإنقاذ عهد الرئيس عون الذي يبدو أنه بالرغم من كل الأزمات المتلاحقة، يصر على التمسك بذهنية قديمة تتناقض مع تطلعات الرئيس المكلف.
في جعبة الرئيس نجيب ميقاتي الكثير من الكلام حول ما يوضع من عراقيل أمام مسيرة التأليف، لكن الرقي السياسي الذي يتعاطى به مع كل المعنيين يمنعه من البوح به، إنطلاقا من رغبته الصادقة بالانقاذ وهو لا يتحقق إلا بتشكيل الحكومة التي لم يعد يختلف إثنان على أنها تشكل الفرصة الأخيرة لعهد الرئيس عون، لأنه في حال وصل ميقاتي الى طريق مسدود وقدم إعتذاره فلن يكون هناك رئيس مكلف جديد ولا حكومة، بل إنهيار ومسير جماعي نحو جهنم.
مواضيع ذات صلة: