عن الجنون اللبناني وشريعة الغاب!… رنا البايع

في دولة ما عادت تليق بها هذه الصفة، تحكمنا منظومة عنكبوتية لم تسلم جهة من خيوطها المتمكنة المتينة.. مكتوب علينا ان نحمل وزر الماضي، نحن ورثة الحرب الأهلية، في كل خطوة نخطوها.. مسيّرون في قراراتنا البسيطة والمصيرية وممنوع علينا ان نحلم بغد أفضل…

تعقد معنا دولتنا الصفقة تلو الاخرى لكن من دون مناقصات او مزايدات: هذا الموجود، اقبلوا به، تأقلموا، تعلّموا ان تعيشوا في كنفه، أو هاجروا… وكم تبدو الهجرة حاليا مغرية، للهرب من المزرعة التي نعيش في ظل قساوتها وبدائيتها.

الظواهر كلها تشير الى دخولنا مرحلة الخطر الاجتماعي- الأمني الداهم، اذ ان شريعة الغاب تتحكم بكل مفاصل حياتنا: نتقاتل على “المدعوم” على القوت اليومي، فيما “غير المدعوم” ترف لا يجد من يلمّه عن الرفوف.. والكلمة الاخيرة للقوي على الضعيف، للحاكم على المحكوم، للكاذب على الصادق، للسارق على الامين، للقاتل على القتيل…

في هذه المعمعة الرمادية، حيث يختلط الحابل بالنابل، تأتي القاضية غادة عون، لتضيف نكهتها الحادة “البوليوودية” على الركود الحاصل في الجسم القضائي الذي نعوّل على نزاهته المفقودة في دهاليز السياسة. ولعلّ المأخذ الأكبر عليها اتهامها بتنفيذ أجندات جهة سياسية هدفها الأقدم “الاصلاح والتغيير” وشعارها الأجدد والأشهر “ما خلونا”. في بلد اسمه لبنان يعشعش فيه الفساد من شماله الى جنوبه، تبدو افعال القاضية عون ضربّا من الجنون ودعسات غير محسوبة وخطيرة في آن.

قابلها اعلام أجوف جنّ جنونه عليها، وصبّ جام “نشراته” للتنكيل بها وللتنمّر عليها.. واكتمل العقد بنقيب الصحافة المثير للجدل عوني الكعكي ليزيد الطين بلة، فلم يجد ما يعيب به القاضية عون، على الرغم من مخالفاتها القانونية الفاضحة، سوى انها غير متزوجة!!

بلد تتحكم فيه المحسوبيات والزبائنية والاستزلام من شماله الى جنوبه، يلفّه الجنون من كل الزوايا: قضاء كفّ يده عن الفساد منذ عقود، قاضية تتحدى القضاء، نقيب صحافة متنمّر من الطراز الرفيع، اعلام مسيّس، حكومة مكبّلة حتى في التصريف واخرى مفقودة بانتظار ضوء خارجي، حاكم يهندس افلاسنا، ملوك طوائف شاخوا وما تابوا، وشعب محكوم “بشريعة غاب” ارتضاها على مضض واستسلم…

عندما تحكم “شريعة الغاب “وتصبح كل الاجراءات من فوق الطاولة ومن تحتها مسموحة شرط البقاء والاستمرار، هل تبرّر الغاية الوسيلة؟ هل يمكن ان يتحوّل كل هذا الجنون الى منطق ولو”أعوج”؟ هل قد تتحقق عدالة ما ولو كانت منقوصة؟

بركة الفساد الراكدة تحتاج الى قضاء يشمّر عن زنوده ويرمي فيها حجرا يحرّك جمودها يحفّز ردة فعل فيها لتحدث موجات قادرة على ايقاع حجارة الدومينو الواحد تلو الاخر…

هذه المنظومة متماسكة شكلا، لكنها فعليا تخوض معارك اقصائية فيما بينها على حصص ما بقي من “قالب الحلوى”، يتقاتلون في أروقة الفضائح والفضائح المضادة مستعينين بقاض من هنا او اعلامي من هناك للتصويب على ملف دون غيره… شريعة الغاب التي تماشي العصر اللبناني الحجري، هي ذاتها التي تحكمنا، قد تقضمهم الواحد تلو الآخر، وقد تحصّل لنا حقوقًا ما حسبناها ستعود…

بالمختصر كلنا مجانين: حكامنا مجانين لأنهم يعتبرون أنفسهم بمنأى عن المساءلة ومحصنين ضد الاسقاط… ونحن مجانين لاننا لا نزال نصدّق بسذاجة ألاعيبهم الخبيثة ونتأمل خيرا فيهم…

لعلّ هذا الوطن بحاجة الى رحيلهم ورحيلنا على السواء حتى نعرف قيمة ما فقدنا…

فالبناء ليس من اختصاص من كان مسؤولا عن الدمار…


مواضيع ذات صلة:


 

Post Author: SafirAlChamal