مدينتي! تدفع ضريبـة ضمـّها “عنوة” الى لبنان الكبير منذ تأسيسـه! رضيَت بالهــّم والهــّم لم يرضَ بهــا !
هي طرابلس أم الفقير، هي مدينـة القهـر والتعتيـر؛ مدينـة مـن عمق التـاريخ تأسست في بدايات القـرن الاخير قبـل ميلاد السيد المسيح، فكانت عاصمة للفينيقيين، وتعاقبت على حكمها عدة دول كالرومان والبيزنطيين والمماليك والفاطميين والعثمانيين، ثم خضعت للانتداب البريطاني فالفرنسي، وكان مـن أواخـر مـن “بـلّ يده” بهـا ياسر عرفـات في الثمانينيـات، ثم جـاءهـا “ردع الختام” فأمعن بختـانها ونكّل بهـا مجرّدا اياها مـن عراقتهـا وأجبر خيرة عائلاتهـا ورجـالاتهـا الى الرحيـل عنهـا ليحلّ مكانهـم ذاك النزوح القروي من كل حدب وصوب، فتغيّرت ديموغرافيتهـا وأصبحت على مـا أصبحت عليـه اليوم، تعجّ بالمخبرين التابعين لأجهزة متشعّبة الانتمـاء، ولجهـات هجينة تربــّـعت مكان الحصان وأكلت في معلفه ولبست سرجه وكلّمـا أرادت أن تظهر فرحها، نهقت لعدم قدرتـها على الصهيل !
لقد قبض هؤلاء الأوغاد على المدينة، و”بلـّـوا يدهم” بمعالمهـا وبأهلهـا، فكان أن أذاقوها يـوم أمس مرارة العلقم، تجلّت باحراق مباني محكمتهـا الشرعية وقصرهـا البلدي ومحاولتي محلات المرحوم رفعت الحلاب أهم معالمهـا السياحية، واحراق احد صروحهـا الجامعية، ومشاريع قرارات اللبيب فهمي بنقل سجلات نفوس اهل المدينة الى البترون بذريعـة الحفاظ عليها تحت اشراف نائبها الصنديد، فكان ذلك بمثـابـة اشعـال صدور أبنـاء المدينـة وإشعـارهم بالقهر ّ والذل، اذ أصابتهم نكبة لم يشهدهــا أهلهـا منذ رحيل عبداللطيف فهد ومحمد خلّوف عنهـا، أعاد الاوغـاد عرض فيلم ذكريـات المدينـة المليئة بالقهر والتقهقر فاحترق الساكن والمسكون معا، فالحجر والبشر، كل لايتجزأ، وكأن الهدف ممـا يحصل هــو دكّ جدران البيت فيرحـل من كان بداخله؛
يوميـات طرابلس منتسبة الى حد كبير الى انفجـار مرفـأ مدينـة بيروت، تلك المأسـاة التي حلّت كالصاعقة بالعاصمـة وأحدثت من الخراب المادي والنفسي بهـا، ذات الخراب العارم يغمر مدينـة طرابلس، انمـا بصورة مستدامة ، حيث أن أيـامهـا الـ 365 ممهورة ومؤرخـة في الرابع من آب؛ مدينـة المآسي الوجودية تعيش بمآثرها وخصالها التاريخية، بجسدها وروحها المعذبين، بآلامها وآلام أهلها الذين ثاروا احتجاجاً على قتل البلد في 17 تشرين، وتمرّدوا على القتلة الذين عبثاً يهربون “متظللين بفيء فسادهـم”.
طرابلس اليوم لم تعد مدينة فحسب فهي كالرجل العجوز الذي حلّت عليه لعنة القدر، مدينـتنــا تحتضر، تتنفس ببطء وتموت ببطء، مرميـة ومتروكـة لوحدهـا على فراش الاحتضار، تركتها الدولة منهكة ومدمرة.
تلقيت اتصـالات هـاتفية وأنـا في عزلتي “الكورونيـة” من عشرات الأصدقـاء يسألونني عمـّا يحصل في المدينة! وكان جوابي مستقر منذ البدايـة وحتى اليوم، فصحيح أن الجوع يعمّ المدينة الا أنـه ما برح يظللّ بجناحه الاسود على لبنـان برمته من شمـاله الى جنوبه، صعودا الى بقاعـه، مرورا بعاصمته وبضاحيتهـا فلمـاذا بدأت السلالة الجديدة للثورة في طرابلس؟ والسؤال الاهم في اي مكان سوف تنتهِ!! اجابتي هذه بنيتهـا على متابعتي للحملة الممنهجة والشعارات والعناوين التي تتضمنتها صرخات ضاربي الحصى والمولوتوف وفي لوائح أسئلة مراسلي التلفزيونـات الموجهة الى الجمهور! كلهـا تتمحور حول نوّاب المدينة وسرايها وبلديتهـا ومحكمتهـا الشرعية ومفتيهـا! هـل هنـا تكمـن مشكلة المدينة؟؟ هـل أن نواب المدينة هم السبب بإهمـالهـا من قبل دولة لبنـان الكبير الذي جرى ضم طرابلس الشام اليـه عنوة؟؟
لنضع فرضيـة رحيل النواب أو اقصاؤهم وفورا! مـن سيكون البديل؟ هـل هـم ابطـال الشاشـات ومواقع التواصل والمذيعين والمراسلين الذين يتابعون ويعلقون على حفلة اغتيال المدينة كما لو أنهم يعلقون على مباراة كرة قدم أو كرة سلة! اذا ما انتخبنـا مثلا السيد ألان درغام والسيدة راشيل كرم والسيد باكيش والطفل المعجزة المدعو أبو العبد، ليحلّوا مكان نواب المدينة فهل هم قادرين على ضمان قبول طلب انتساب مدينة طرابلس في دولة لبنان الكبير؟؟
ما يحصل في طرابلس هو محاولـة لاغتيـال مدينة بما تبقى فيهـا من مقوّمات، فلنكـن أذكيـاء ولنرَ ما يحاك لهـا ولنـا؛ نعــم، ان السادة نواب طرابلس ليسوا جميعـا على المستوى الذي نصبو اليـه، فمنهم مـن اسقط علينـا رغما عن أنوفنـا، ولدينـا الخيـار بتغييرهم وبانتخاب بدائل عنهم، فالى أن يحين الموعد، الاجدى بنـا العمـل بالمثل الشعبي: “أنـا وأخي على ابن عمي وأنـا وابن عمي على الغريب”! لنعمـل على الضغط على نوابنـا لتحسين أدائهم، ولنضعهم أمـام لائحـة مطـالب تتضمن أهداف نراهـا تصبّ ضمن اطار “توطين” طرابلس في لبنـان الكبير، ولنضع لهم جدولا زمنيا محددا للعودة الينا باجابات وحلول، واذا مـا أثبتوا لنـا بشفافيـة أنهم عجزوا، لنصعد وايـاهـم الى قلعـة طرابلس نتحصن وراء جدرانهـا ونحتمي بهـا ولنعمل على صــون مؤسسـات مدينتنـا لا الى احراق مبانيهـا. إنهـا ليست فرصة ثانية نعطيهـا لهم انمـا هم أمر واقع وموجود، من الحنكة أن نتعـامل معه كمـا هـو من أجل مصلحـة المدينة الغارقة في محيط من الضغينة والاستهداف الطائفي العنصري والمتعصب؛
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ، وليس لمـن عاث في المدينة وبمبانيها احراقـا وتكسيرا ودمـارا، فنحـن أبنـاء البحر، نتقـن استعمـال البوصلـة، لنصوّبهـا الى الاتجـاه الصحيح، فتدلّنـا الى مكامـن الخطر الذي يهدد مدينتنـا والذي والله أعلم، فهو متأتّ مـن خارج أسوار قلعتهـا وليس من داخلهـا، ابحثوا وصوبوا مجاهركم الى من ينتظر انتخاب بايدن ليحسن اوضاعه والى مـن يكره المدينة وأهلهـا، الى من يريد احراق سجلات انتساب اهلها الى الوطن ومبنى بلديتها ودوائرها العقارية ومحكمتها الشرعية بما تحتويه من وثائق اثبات الروابط العائلية للسواد الاكبر لابناء المدينة، اضافة الى جامعاتها بغية تجهيل ابنائها، مرورا بتفصيل بسيط يتمثل بتفريغ ممثليها في برلمان الدولة من شرعيتهم فتصبح المدينة كالمركب في عين العاصفة من دون ربّان من دون تاريخ، وجعنـا يكمن عند أهل الهمّ الذين رضينا بـه فلم يرضَ بنـا وبمدينتنـا.
بقلم: المحامي وهيب ططر