كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية” تحت عنوان “الإتفاق النووي فقط والباقي غير مضمون”: اصبح جو بايدن رسمياً الرئيس الـ 46 للولايات المتحدة الاميركية، بعد اسابيع طويلة من المشاحنات والمواجهات والاعتراضات، التي قادها سلفه الرئيس السابق المثير للجدل دونالد ترامب.
حفل التنصيب الذي غابت عنه الحشود الشعبية، إن بسبب كورونا او بسبب الخشية من اعمال عنف كانت قد طاولت مبنى الكابيتول هيل، جرى التعويض عنها بالمشاركة اللافتة لعدد من نجوم الفن والمجتمع، بخلاف ما حصل قبل 4 سنوات، حين غاب هؤلاء النجوم عن احتفال تنصيب دونالد ترامب.
جرى ذلك فيما كان المولجون بترتيب تجهيز مكاتب البيت الابيض وغرفه قد انهوا عملهم، خصوصاً لجهة إفراغ المكاتب من الملفات السياسية والمذكرات ومحاضر الاجتماعات، والتي تمّ نقلها الى الارشيف الوطني، حيث ستبقى سرّية لمدة 12 عاماً على الاقل. وسيدشن بايدن ولايته، كما بات معروفاً، بإصدار 17 امراً رئاسياً، تهدف الى العدول عن بعض القرارات التي كان سلفه قد اتخذها، والتي تتعلق بالهجرة وتغيير المناخ وجائحة كورونا ووقف بناء الحائط عند الحدود الاميركية ـ المكسيكية.
لكن هذا لن يعني بالضرورة إسدال الستارة على حقبة ترامب. فالرجل الذي شهدت ولايته سلوكاً عاصفاً، يستعد لسلوك مماثل، ولو على مستوى السياسة الاميركية الداخلية.
وهذا ما سيجبر ادارة بايدن على تخصيص مساحة واسعة من اهتماماتها للتفرّغ للملفات الداخلية الشائكة. ولن يُشغل ترامب ادارة بايدن وحدها، بل انّ «ازمة ترامب» ستطاول هذه المرة الحزب الجمهوري نفسه، خصوصاً بعد تصاعد الإنقسامات الداخلية ووقوف عدد من اركان الحزب الجمهوري ضدّ السلوك السياسي لترامب.
في العادة، هذا النوع من الرجال يرتدّون الى بيتهم الداخلي بعد خسارتهم معاركهم الخارجية. ومعه، فإنّ خسارة البيت الابيض ستجعل ترامب يرتد الى البيت الجمهوري، وهو ما يعرفه ويخشاه في آن معاً اركان الحزب الاميركي العريق، وفي طليعتهم زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل.
وحتى ولو اتجّه ترامب الى تأسيس حزب جديد يحمل اسم «باتريوت» اي «الوطني» كما كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإنّ ترامب سيأخذ معه شريحة واسعة من القاعدة الجمهورية، ما سيهدّد تأثير الحزب خلال الانتخابات مستقبلاً، حيث من المفترض ان تجري في تشرين الثاني من العام 2022 الانتخابات النصفية، والتي ستطاول مقاعد في مجلس النواب والشيوخ، اضافة الى حكّام ولايات ومواقع اخرى.
في الغالب، يتجّه بايدن الى إصدار عفو عن ترامب، بذريعة ضرورة اعادة توحيد البلاد ومعالجة الآثار الخطيرة التي نشأت بعد السلوك «المثير» لترامب. لكن هنالك من يرى في هذه الخطوة في حال حصلت، نية لتعزيز الإنقسامات بين الجمهوريين وإضعاف الحزب العريق اكثر فأكثر، وصولاً الى تأمين الفوز للحزب الديموقراطي في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
ففي آخر استطلاع اجرته «واشنطن بوست» وشبكة ABC News، قال نحو 70% من الجمهوريين إنّ بايدن لم يُنتخب بنحو شرعي وشفاف. وبالتالي، فإنّ امام بايدن مهمة داخلية صعبة في إعادة توحيد البلاد الممزقة، إضافة الى معالجة نتائج كورونا على الاقتصاد والمجتمع، والتي ادّت حتى الآن الى ما يزيد عن 400 الف وفاة.
وليس تفصيلاً ابداً ان تجري مراجعة مباشرة لكل عنصر من عناصر الحرس الوطني الذين تولوا تأمين حفل تنصيب بايدن، وإبعاد البعض منهم، هو مثال يعكس حجم الانقسام الداخلي والاحتقان الذي يسود البلاد.
في اي حال، فإنّ بايدن سيتجّه حتماً الى فتح ابواب التعاون مع الحزب الجمهوري، وهو المعروف عنه خلال عمله في موقع نائب الرئيس، نصحه الدائم لرئيسه باراك اوباما بتعاون وثيق اكثر مع الجمهوريين.
لكن ما يهمنا هو طريقة تعامل ادارة بايدن مع الشرق الاوسط ومشكلاته الحادّة والخطرة.
بعض خبراء السياسة الاميركية يتوقعون، وبسبب الظروف الاميركية الداخلية، اهتماماً اميركياً اقل بكثير بقضايا الشرق الاوسط، باستثناء الملف الايراني، الذي سيحظى باهتمام خاص. وقد قال مرشح بايدن لموقع وزير الخارجية انطوني لينكن في وضوح خلال جلسة الاستماع اليه في الكونغرس، إنّ ادارته ستعود الى الاتفاق النووي، وبعدها تبدأ بمعالجة قضايا اوسع، والتي حدّدها ببرنامج الصواريخ البالستية وأنشطة ايران الاقليمية.
وخلال جلسة الاستماع تصاعدت اصوات أعضاء جمهوريين وديموقراطيين، سألت عن الخطة التي ستتبعها ادارة بايدن للتعامل مع سياسة ايران في الشرق الاوسط، وتمويلها المجموعات المتحالفة معها، اضافة الى مسألة الصواريخ البالستية. وشدّد هؤلاء على الالتزام بمسار مترابط، بين العودة الى الاتفاق النووي ومعالجة كل جوانب السياسة الايرانية في الشرق الاوسط.
لكن بلينكن اعطى الاولوية للاتفاق النووي، ومتعهّداً بإشراك اسرائيل ودول خليجية في المفاوضات التي ستحصل. وهو ما يعني انّ الاتفاق النووي سيسلك مساراً مستقلاً، وانّ الخطوة الثانية ستكون الملف اليمني، من خلال اعلان بلينكن التزامه إنهاء الدعم الاميركي للحرب التي تقودها السعودية في اليمن، وأنّ بلاده ستعمل على ذلك في وقت قصير جداً.
وما لم يقله بلينكن، قاله مصدر ديبلوماسي اميركي خبير في شؤون الشرق الاوسط، من أنّ العودة الى الاتفاق النووي مسألة حتمية وستحصل. فحتى ايران سُنحت لها فرص عدة خلال ولاية ترامب للانسحاب من الاتفاق ولم تفعل ذلك، أي انّها لم تكن تبحث عن عذر للخروج، على رغم كل ما قيل، لا بل على العكس، وربما قد تحتاج ايران الى بضعة اشهر للعودة الى الاتفاق، مع اصرارها على تخفيف العقوبات عنها.
ولمّح المصدر الديبلوماسي، الى انّ واشنطن قد تغض النظر وتسمح لإيران بالوصول الى بعض ارصدتها المجمّدة في الخارج، وهو ما سيخفف من التحدّيات الداخلية الكثيرة التي تواجهها، خصوصاً على المستوى الاقتصادي والمعيشي، ولو من دون رفع نظام العقوبات المعمول به.
وهذه الصورة تعني، انّ لا مكان للملف اللبناني في هذه المرحلة على طاولة البحث. لا شك في أنّ الانفراج الذي سيحصل في سماء العلاقات الاميركية ـ الايرانية سيؤدي الى تنفيس الاحتقان الشديد الذي يكاد يخنق لبنان، الّا انّ الذهاب الى إرساء حلول جذرية لا يبدو انّه يلوح في الافق.
ولكن ثمة ما هو اخطر، فأمام ادارة بايدن فرصة حقيقية لوصول فريق سياسي جديد الى السلطة في اسرائيل، مكان بنيامين نتنياهو، الذي كان قد تحدّى اوباما في عقر داره في نهاية ولايته. ذلك انّ استطلاعات الرأي في اسرائيل تصل الى انّ الاحتمال ضئيل جداً في أن يتمكن نتنياهو من تكليفه تشكيل الحكومة المقبلة، رغم بقاء حزب «الليكود» في صدارة الأحزاب في الكنيست الاسرائيلي. لكن مشكلته تقف عند خريطة التحالفات الجديدة للكنيست. ومعه قد نشهد بعض الشغب على يد حكومة نتنياهو في المدة الفاصلة عن موعد الانتخابات.
والواضح، انّ التركيز الامني والعسكري الاسرائيلي ينصّب على الساحة السورية، والتركيز الاعلامي والسياسي على الساحة اللبنانية. وعلى الرغم من الدور الروسي الاساسي على الساحة السورية، إلّا أنّ من الواضح انّ العلاقات الروسية ـ الاسرائيلية، والتنسيق الامني بينهما، يُعتبر من افضل ما شهده تاريخ العلاقات بين البلدين. وبالتالي من المرجح ان تسعى اسرائيل، ولو من خلال حكومة جديدة، الى فرض الملف السوري على طاولة البحث، استناداً الى العلاقة الوثيقة مع موسكو. لكن الأهم ما عُرف عن حقبة اوباما خلال وجوده في البيت الابيض، يومها كبر حجم تنظيم «داعش» بسرعة وفرض تغييراً وتعديلاً على خريطة النفوذ في سوريا والعراق، وهو ما طاول الساحة اللبنانية ايضاً.
وكذلك هنالك تركيا، التي باشرت إدخال تعديلات على سياستها الهجومية خلال ولاية ترامب، فهي تشهد تراجعاً كبيراً في الاصوات المؤيّدة لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم. وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه، فهنالك احتمالات لا بأس بها لعدم حصول اردوغان على نسبة 50% للفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، حتى ولو استمر تحالفه مع حزب «الحركة القومية». ولا شك في انّ رحيل ترامب سيفاقم من مصاعب اردوغان الذي كان داعماً له. ومعه قد تُقدم ادارة بايدن على تسوية مع اردوغان، الذي يعاني اقتصادياً، على الساحة السورية، اضافة الى مجالات اخرى.
لكن في لبنان، فإنّ الصورة باقية على ما هي عليه، وربما لم يعد من سبيل امام الخروج من المأزق الداخلي الخطير، سوى الإقتناع بالوساطة الفرنسية، التي من المفترض ان تتسلّح بدفع ودعم اميركي اوضح هذه المرة.
مواضيع ذات صلة: