لم يسبق للبنانيين أن واجهوا هذا النوع من ″الاجرام السياسي″ الذي يتفنن مرتكبوه في تهديد حياتهم وتجويعهم وإفلاسهم، وقيادتهم نحو بطالة وفقر ومرض وقهر وذل، وتركهم معلقين في حبال الهواء فلا يطالون حكومة ولا يصلون الى بر أمان الانقاذ، والنتيجة فوضى لا خلاقة تقود البلاد والعباد شيئا فشيئا الى جهنم وبئس المصير.
يكاد لبنان يدخل موسوعة “غينيس” في عدد الأزمات التي تتوالد فيه وترخي بثقلها عليه، لكن ذلك لم يدفع المعنيين بتشكيل الحكومة الى المبادرة لانقاذ ما يمكن إنقاذه، فلا المسؤولية الوطنية حركتهم، ولا المعاناة والمأسي اللبنانية هزتهم، ولا جائحة كورونا التي تفتك بالوطن أثارتهم، ولا إنفجار مرفأ بيروت وتدمير العاصمة وتشريد أهلها أدى الى تليين مواقفهم السياسية التي تزداد تصلبا على وقع تجاذبات التأليف والضغوط لسحب التكليف.
بات واضحا أن لا حكومة في المدى المنظور، فالمبادرات مجمدة، والتواصل مقطوع، واللقاءات مؤجلة، و”السواتر السياسية” تقطع الطرقات بين بيت الوسط وقصر بعبدا، وهي تلقت أمس “صليات” طائفية مذهبية تحريضية من “ميرنا الشالوحي” رفعت من هذه السواتر بشكل بات من الصعب إجتيازها.
“لا نريد سعد الحريري ولا يوجد غير سعد الحريري”، هذه “المعادلة” أرخت بثقلها على المؤتمر الصحافي لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي صب كل ما لديه من حقد على الرئيس المكلف، ولم يتوان عن الاساءة المباشرة إليه، وزرع الفتنة بينه وبين المسيحيين عموما والكاثوليك خصوصا وبين قسم من الدروز، ليتمكن باسيل بذلك من الحصول على “الثلث المعطل” الذي لا يتوفر له في صيغة الـ 18 وزيرا التي يطرحها الحريري ويتمسك بها، أو لامساك بالوزارات الأمنية والعدلية التي يضع الحريري فيتو عليها.
ما سبق وقاله رئيس الجمهورية تلميحا، قاله جبران باسيل يوم أمس تصريحا، بأننا لا نريد الحريري ولا نأتمنه على الاصلاح، علما أن باسيل والحريري لطالما “دافنينو سوا” في أشهر العسل التي أعقبت التسوية الرئاسية، على حساب كل التيارات الأخرى التي حاول باسيل بالأمس إستثارة عصبياتها ضد الحريري الذي يمتلك ورقة التكليف ويتمسك بها، الأمر الذي يجعله بالنسبة للرئيس ميشال عون وباسيل شر لا بد منه الى أن يقرر هو مصير تكليفه، أو أن تؤدي تسوية ما الى التوافق هذا أمر مستبعد في الوقت الحالي.
أمام هذا الواقع، يبدو أن اللبنانيين سوف ينتظرون طويلا إنتظام الحياة السياسية في بلدهم وتشكيل حكومة تستطيع مواجهة التحديات وتعمل على الانقاذ الاقتصادي والمالي والصحي والاجتماعي، في ظل طبقة سياسية تمتهن “الاجرام السياسي” الذي يضرب كل أسس الدولة، ويفكك مؤسساتها ما ينعكس تمردا شعبيا على الدولة ويترجم يوميا بخرق قرارات منع التجول بشكل علني وبالتصدي للقوى الأمنية وإزالة حواجزها، كما ينعكس تفلتا مسلحا بدأت القوى الأمنية تعجز عن مواجهته لا لضعف في إمكاناتها ولكن لكثرة إشكالاته.
كل ما يشهده لبنان اليوم، يحتاج الى إعلان حالات طوارئ متلاحقة، والى تشكيل حكومة بشكل فوري لمواجهة تداعياته، خصوصا أن الموت بات يتربص باللبنانيين من كل حدب وصوب وربما جاز القول أنه تحول الى نظام حياة تتعاطى معه الناس بشكل طبيعي، فكورونا ينشر الموت يوميا بعدّاد يتراوح بين 15 الى 20 شخصا، والموت يكمن للمواطنين في الاشكالات المسلحة، وفي المرض الذي لم يعد له دواء متوفر في الصيدليات، وفي السطو والسرقات، وفي الاغتيالات وفي القتل نتيجة خلافات متعددة، وفي الجرائم، وفي الانتحار الذي يكثر اللاجئون إليه هربا من قهر وذل.
كل ذلك والمعنيون بتشكيل الحكومة يديرون ظهرهم، وكأنهم ينتظرون موت أكثر من نصف اللبنانيين لكي تهتز ضمائرهم ويعملون على إنقاذ البلد.. هذا إن بقي لنا بلد!.
مواضيع ذات صلة: