يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تحذو حذو لبنان في مقاربتها الجديدة لبناء السلطة، فمشهد التجاذبات السياسية والتظاهرات الغاضبة والفوضى الشاملة والاقتحامات والمواجهات مع الشرطة وإطلاقها الغاز المسيل للدموع يكاد يحاكي المشهد في بيروت التي لا يزال فيها من يراهن على دخول جو بايدن الى البيت الأبيض، في الوقت الذي يحتاج فيه بايدن وترامب ومعهما الكونغرس والادارة الأميركية الى الرهان على من يستطيع أن يخرجهم من المأزق الذي دخلوا فيه ومن شأنه أن يكون له تداعيات كارثية على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في أميركا.
لم يختلف ترامب عن بعض أصحاب الرؤوس الحامية في لبنان، فبدا وكأنه خريج إحدى مدارس التيارات السياسية اللبنانية، فهو رفض نتائج الانتخابات الرئاسية، وإستخدم مصطلحات لبنانية صرفة من اللاءات التي أطلقها، لا إعتراف لا إستسلام ولا تسليم، الى التهديد بالشارع تظاهرا وتصعيدا، الى التحريض والشحن السياسي، محاولا بذلك تثبيت “زعامة” تتجاوز الحزب الجمهوري وتختلف جذريا مع واقع الحياة السياسية الأميركية، وتحاكي “القائد الرمز” الذي لطالما عانى اللبنانيون من صعود نجمه أو أفوله.
توّج ترامب جنونه الذي كان السمة الأساسية لولايته، بتنفيذ تهديده بالتصعيد، حيث أقتحم مناصروه مبنى “الكابيتول هيل”، وعطلوا جلسة الكونغرس الأميركي للمصادقة على إنتخاب جو بايدن، وعاثوا فسادا وتخريبا وتحطيما في أرجاء المبنى في “حفلة هستيرية” وصفها البعض بـ”يوم أسود” لم تشهد أميركا مثيلا له في تاريخها، وقدم ترامب بصورة الديكتاتور المستعد لاحراق بلاده من أجل البقاء على كرسيه ضاربا عرض الحائط كل الحساسيات والمخاطر التي تحيط بالولايات المتحدة، خصوصا أنها تشكل تجمعا من إثنيات مختلفة قد تتفكك عند أي إنقسام عامودي في البلاد، ليعود كل فريق الى الأصول التي يتحدر منها ويشكل جبهة مقابل الآخرين، ما قد يؤدي الى حرب أهلية حقيقية لها إنعكاسات مدمرة على المجتمع الأميركي.
هذه المخاطر إستشعرها الكونغرس الأميركي الذي أصر على عقد جلسة المصادقة على إنتخاب جو بايدن، في وقت نفضت الأكثرية يدها من ترامب الذي قال أنه “سيكون هناك تسليم للسلطة في 20 كانون الثاني بالرغم من تزوير الانتخابات”، ما يؤكد إستمراره في حالة الجنون التي تجتاحه حتى نهاية ولايته، في وقت إرتفعت فيه الأصوات المطالبة بتنحيته في المدة المتبقية له سندا للمادة 25 من الدستور الأميركي كونه “لا يؤتمن على حكم الولايات”.
يبدو واضحا أن من ينتظر تداعيات الانتخابات الأميركية في لبنان ليبني على السياسة مقتضاها، بات كمن يلاحق سرابا يحسبه الظمآن ماء، فأميركا منشغلة بذاتها وبمأزقها وبأزماتها، ولا تأبه لما يجري حولها في العالم وخصوصا في بلد مثل لبنان الذي بالأصل لا يهمها منه أو فيه إلا تحقيق أمن إسرائيل، حيث تذكّر مصادر مطلعة بما قاله السيد حسن نصرالله لجهة أنه “إذا تم نزع سلاح حزب الله من المعادلة، فإن العالم ليس على إستعداد لأن يتطلع أو يهتم بلبنان”.
يمكن القول، إن الجنون الأميركي يحاكي الجنون اللبناني، ففي أميركا رئيس يرفض التنازل عن السلطة، وفي لبنان أكثر من رئيس يعطل السلطة برفض تشكيل الحكومة ولا يأبه لمعاناة ومآسي اللبنانيين الذين يتطلعون الى من يأخذ بيدهم نحو الانقاذ بعدما “بلغ السيل الزبى” إقتصاديا وماليا وصحيا وإجتماعيا وإنسانيا، حيث ما تزال عملية التأليف عالقة عند اللقاء الـ 14 وما تلاه من حرب مصادر وبيانات وإتهامات، في وقت يسعى فيه البطريرك الراعي الى وصل ما إنقطع بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري الذي عاد من السفر أمس.
تشير المعطيات أن الراعي سيكون أمام مهمة صعبة جدا، في ظل تصلب المواقف سواء من الرئيس عون الذي طيّر تشكيلة الحريري ووضع شروطا جديدة تقضي بتشكيل حكومة من 20 وزيرا مع الثلث المعطل، أو من الرئيس الحريري المتمسك بطرحه بـ 18 وزيرا ومن دون ثلث معطل وتقاسم الوزارات الأمنية والعدلية، علما أن تصعيد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في القمة الخليجية بوجه إيران، سيؤدي حتما الى تكبيل الحريري بسقف سعودي من الصعب أن يتخطاه.
أمام إنسداد الأفق، وعدم تراجع عون عن شروطه، وعدم توجه الحريري نحو الاعتذار، فضلا عن التعقيدات التي ترخي بثقلها على عملية التأليف، تتخوف بعض المصادر من الذهاب الى أزمة حكم وليس أزمة حكومة، لافتة الانتباه الى أن هذا أمر خطير جدا في ظل المأزق الاقتصادي والاجتماعي القائم.
مواضيع ذات صلة: