ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداسا احتفاليا لمناسبة عيد “العائلة المقدسة” واليوم العالمي للسلام على مذبح كنيسة الباحة الخارجية للصرح البطريركي في بكركي “كابيلا القيامة”، عاونه فيه المطرانان حنا علوان وسمير مظلوم ولفيف من الكهنة، في حضور نقيب الأطباء شرف ابو شرف، رئيس الرابطة المارونية في أوستراليا أنطوني الهاشم، قنصل لبنان في المانيا شربل نصار، قنصل جمهورية موريتانيا ايلي نصار، مؤسسة البطريرك صفير الاجتماعية الخيرية برئاسة الدكتور الياس صفير، اللجنة الأسقفية “عدالة وسلام”، وممثلين عن الجمعيات، المؤسسات الإجتماعية، الإنسانية، المدنية، الخيرية وحشد من الفعاليات والمؤمنين.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان “كان يسوع مطيعا لهما، وينمو بالقامة والحكمة والنعمة” (راجع لو 2: 51-53)، قال فيها: “1. تحتفل الكنيسة اليوم: بعيد العائلة المقدسة، مثال كل عائلة مسيحية. فيها ينمو الإنسان في إنسانيته بأبعادها الثلاثة: الجسدي والمعرفي والروحي، على أن يكون الوالدان قدوة لأولادهما، وهؤلاء في علاقة طاعة معهما. هكذا عاشت العائلة المقدسة في الناصرة. “فيسوع الإله المتجسد كان مطيعًا لهما، وينمو بالقامة، من تعب يوسف ومريم ومن عمله اليومي بالنجارة؛ وبالحكمة باكتساب المعرفة والخبرة والفضائل الإنسانية والإجتماعية؛ وبالنعمة الإلهية بامتلائه من الروح القدس من خلال الصلاة والتزاماته الدينية في كل سبت.
إننا نصلي كي يقدس الله عائلاتنا، فتكون كل عائلة كنيسة منزلية تنقل الإيمان وتعلم الصلاة ومدرسة طبيعية أولى تعلم الفضائل والأخلاق، وخلية حية للمجتمع تهيئ له أعضاء صالحين.
2. يسعدنا أن نحتفل معا بهذه الليتورجيا الإلهية، إحياء لعيد العائلة المقدسة، ويوم السلام العالمي الرابع والخمسين. فنحيي اللجنة الأسقفية “عدالة وسلام” التي دعت لهذا الإحتفال. نصلي إلى الله من أجل إحلال السلام في العالم وعندنا وفي الشرق الأوسط، وعلى نية كل من عانى وإعتنى بضحايا إنفجار المرفأ في 4 آب 2020.
ويطيب لنا أن نحيي مؤسسة البطريرك نصرالله صفير: رئيسها الدكتور الياس صفير وأعضاء الهيئة الإدارية. تشمل هذه المؤسسة الخيرية قطاعين: طبي بمستوصف في بيته الوالدي في ريفون جعله في عهدة كاريتاس لبنان، وتربوي بتأمين منح جامعية للطلاب المعوزين في مختلف الجامعات الخاصة. تُقدم هذه الذبيحة الإلهية لراحة نفس المثلث الرحمة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس، ونصلي من أجل إزدهار المؤسسة ونموها.
ثقافة العناية مسار السلام
3. هذا هو عنوان رسالة قداسة البابا فرنسيس ليوم السلام العالمي 2021. إختاره من أحداث عالمية علمتنا أهمية العناية بالأشخاص، وبخاصة ضحايا وباء كورونا، والتمييز العنصري، والخوف من الأجانب، والنزاعات والحروب. فعزى أهالي الضحايا، وحيا الأطباء والممرضين والمرشدين والمتطوعين والعاملين في المستشفيات والمخاطرين بحياتهم من أجل الإعتناء بالمصابين. ودعا البابا فرنسيس الجميع ليتعلموا ثقافة العناية ويمارسوها ويربوا عليها.
4. نتعلم ثقافة العناية
أ- من الله الخالق الذي سلم الإنسان الإعتناء بالخلق، وبالأرض ليحرسها محاميًا عنها، وليحرثها مستثمرًا إياها (تك 2: 15). واعتنى الخالق نفسه بالكائنات البشرية بدءًا من آدم وحواء وأولادهما، حتى بقايين قاتل أخيه، إذ أعطاه علامة لحماية حياته من القتل (تك 4: 15). هذا يدل على كرامة الشخص البشري التي لا تمس، لأنه مخلوق على صورة الله ومثاله (الفقرتان 2 و3).
ب- من حياة يسوع ورسالته، وقد جسدت حب الآب لجميع البشر. ففي مجمع الناصرة أعلن يسوع رسالته كمرسل من الآب كرسه الروح لإعلان البشرى للمساكين، والتحرير للأسرى، والبصر للعميان، والإنصاف للمظلومين (لو 4: 18). وشاهدناه في الإنجيل ينحني على مرضى الجسد والروح ويشفيهم، ويغفر للخطأة، ويعطيهم حياة جديدة.
هذه الثقافة طبعت حياة المسيحيين منذ الجماعة الأولى، فكانوا يتشاركون كل شيء فيما بينهم، لكي لا يكون بينهم محتاج (أعمال 4: 34-35). ثم كانت عبر العصور المؤسسات التربوية والإستشفائية والإجتماعية والخيرية لمختلف الحاجات (الفقرتان 4و5).
ج- من عقيدة الكنيسة الإجتماعية، التي اختار منها البابا فرنسيس أربعة مبادئ (الفقرة 6):
1) تعزيز كرامة الشخص البشري وحقوقه: فكل شخص هو غاية بحد ذاته، وليس مجرد وسيلة أو أداة تُقيَم من زاوية منفعتها. إنه مخلوق ليعيش مع آخرين في العائلة والمجتمع والدولة، بالمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات وفي الكرامة، وبالعناية بمن هم أضعف بداعي الفقر والمرض والإهمال والتهميش.
2) تأمين الخير العام: وهو “مجمل أوضاع الحياة الإجتماعية التي تمكن الجماعة وكل عضو فيها من بلوغ كماله الخاص، وتؤمن خير كل شخص وخير الجميع. إنه إكتمال الحياة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية.
3) التضامن: من حيث هو قصد ثابت ومتواصل للإلتزام بعضنا ببعض، لأننا به “مسؤولون كلُنا عن كلُنا”. ونرى في الآخر – أكان فردًا أم جماعة – رفيق درب نتشارك معه بالتساوي في وليمة الحياة.
4) حماية الخلق: بالإصغاء إلى صرخة المعوزين وصرخة الخلق. هذا الإصغاء يولد العناية بحاجاتهم، إنطلاقًا من مشاعر الحنان والشفقة وحَملِ هم الآخرين.
5. ممارسة ثقافة العناية
إنها تقتضي إتباع المبادئ الأربعة المذكورة كبوصلة، سواء على المستوى الشخصي، أم على مستوى المسؤولين عن المنظمات الدولية والحكومات وعالم الإقتصاد والعلوم ووسائل الإتصال والمؤسسات التربوية؛ وممارستها تجاه المتألمين من الفقر والمرض والعبودية والتمييز العنصري والنزاعات.
المطلوب من هذا القبيل عدم هدر المال العام على التسلح، وبخاصة الأسلحة النووية، فيما الملايين يموتون جوعًا، ومستشفيات تنقصها الأدوات الطبية والصحية (الفقرة 7).
6. التربية على ثقافة العناية (الفقرة 8).
يحدد البابا فرنسيس أربع فئات مسؤولة عن هذه التربية، هي:
أ- العائلة: كخلية المجتمع الطبيعية والأساسية. لكنها تحتاج إلى أوضاع تمكنها من تأدية هذا الدور.
ب- المدرسة والجامعة والعاملون في وسائل الإعلام: بإمكانهم نقل نظام من القيم مبني على إقرار كرامة كل شخص، وكل جماعة لغوية وإتنية ودينية، وكل شعب، وإقرار وحقوقهم الأساسية.
ج- الأديان وقادتها: لهم دور لا بديل عنه في نقل قيم التضامن واحترام الآخرين المختلفين، وتعزيز العدالة الإجتماعية والحرية السليمة والسلام، مثلما تفعل الكنيسة.
د- الملتزمون في خدمة الشعوب من خلال المنظمات الدولية والحكومات بإمكانهم القيام برسالة تربوية أكثر إنفتاحًا وشمولية.
7. في ختام رسالته يؤكد البابا فرنسيس أن “لا سلام من دون ثقافة العناية (فقرة 9). وهي ثقافة الإلتزام المشترك والمتضامن من أجل حماية كرامة الجميع وخيرهم وتعزيزها. وهي ثقافة الإستعداد للإهتمام والإنتباه التي تشكل الطريق بامتياز لبناء السلام.
وينهي: كلنا في زورق واحد تتقاذفه زوبعة الأزمات. فيجب أن نجذف سوية نحو ميناء آمن وهادىء، ونظرنا إلى العذراء مريم، نجمة الصبح وأم الرجاء. ولا بد من أن نسهم كلنا في التقدم نحو السلام والأخوة والتضامن والتعاضد، مع عناية خاصة بمن هم في حالة أضعف.
8. على ضوء هذه الرسالة الداعية إلى ثقافة السلام نعتبر أن الحكومة لن تتشكل إلا من خلال لقاء رئيس الجمهورية والرئيس المكلف واتفاقهما على تشكيل حكومة مميزة باستقلالية حقيقية، وتوازن ديمقراطي وتعددي، وبوزراء ذوي كفاية عالية في اختصاصهم وإدراك وطني بالشأن العام. فلا يفيد تبادل الإتهامات بين المسؤولين والسياسين حول من تقع عليه مسؤولية عرقلة تشكيلها.
إن رئيس الجمهورية والرئيس المكلف قادران على اتخاذ هذا القرار المسؤول والشجاع إذا أبعدا عنهما الأثقال والضغوط، وتعاليا على الحصص والحقائب، وعطلا التدخلات الداخلية والخارجية المتنوعة، ووضعا نصب أعينهما مصلحة لبنان فقط. فالإنقاذ لا يحصل من دون مخاطرة، وكل المخاطر تهون أمام خطر الانهيار الكامل. هذه الخطوة الإنقاذية تضع الجميع أمام مسؤولياتهم. ومن المؤكد أن المجلس النيابي الذي انتخب لتمثيل الشعب ويستمد شرعيته من الشعب، لا يسمح لنفسه بمعارضة إرادة الشعب الذي يريد حكومة اليوم قبل غد.
9. إن إطلاق النار ليلة رأس السنة عادة غير راقية وغير حضارية. ألا يكفينا ضحايا المرفأ وجائحة كورونا والسلاح المتفلت فنزيد عليهم ضحايا الرصاص الطائش وأضراره المادية؟ بعض اللبنانيين لا يملك ثمن رغيف خبز، فكيف تملكون ثمن السلاح والرصاص؟ ألم تكن اللياقة الاجتماعية والتضامن الإنساني يفرضان الحياء والترفع عن هذا النوع من الابتهاج، فيما مئات ومئات من العائلات حزينة على من فقدت في انفجار المرفأ وجراء كورونا؟ مع تقديرنا لسهر قوى الجيش والأجهزة الأمنية لتوفير الأمن، لا يسعنا إلا أن نطالب هذه الأجهزة والقضاء بمعالجة هذه الآفة في جميع المناطق.
10. نسألك يا إله السلام أن تزرع سلامك في القلوب، لكي نستطيع أن نبنيه في عائلاتنا ومجتمعاتنا والوطن. لك المجد والتسبيح أيها الآب والإبن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين”.