رسالة مفتوحة من الدكتور كميل خباز الى رؤساء الطوائف المسيحية في لبنان والعالم

توجه الباحث الدكتور كميل خباز برسالة مفتوحة إلى رؤساء جميع الطوائف المسيحية في لبنان والعالم على اختلاف مذاهبهم جاء فيها:

أنا، كميل ميشال الخباز، مسيحي ماروني مؤمن، من مدينة البترون، باحث في نصوص العهد الجديد وفي مخطوطات البحر الميت الخاصة بجماعة الأسينيّين (Esséniens)، وهي جماعة يهودية قديمة، حائز على دكتوراه دولة في التاريخ (فئة أولى) من كلية الآداب والعلوم الانسانية – الجامعة اللبنانية – الفرع الثاني – سنة 2002. عنوان أطروحة الدكتوراه: “الأسينيّون: دراسة في أصولهم ومصادرهم وتاريخهم”.

لديّ ثلاثة كتب منشورة، وهي التالية:

–  الزؤان في الكتاب المقدس (1990)

–  مخطوطات البحر الميت وسر أصحابها (2006)

(2012) L’Apocalypse « apocryphe » de Jean 

وكتاب واحد جاهز للنشر، عنوانه:

Le Secret des Esséniens de Qumrân

في كتابه الأخير هذا حقق خباز كشفاً جديداً بخصوص الأسينيّين اصحاب مخطوطات البحر الميت التي تمّ اكتشافها بين سنتي 1947-1956 في إحدى عشرة مغارة بالقرب من خربة قمران الكائنة في الشمال الغربي من شواطئ البحر الميت.

ويقول: “من المعروف أن أفراد تلك الجماعة كانوا يعيشون في القرى النائية بعيداً عن المدن وفسادها. وقد اتخذوا مركزاً رئيسياً لهم في موقع “خربة قمران”. واشتهروا عبر العصور بأنهم جماعة من الرجال لا وجود للنساء بينهم.  وكانوا يؤثرون العيش المشترك ويتميّزون بمحبتهم لبعضهم البعض وغيرتهم على شريعة موسى.

بعد نشوء المسيحية بفترة قصيرة، أي حوالى سنة 40 ميلادية، حصل تطوّر مفاجئ لدى الأسينيّين أثّر في حياتهم السياسية والعقائدية والاجتماعية. فقد تصوّروا أن نهاية الأزمنة قد أتت، وأنه خلال مدة جيل واحد من الزمن، سوف يأتي المسيح المنتظر، المسيح الكاهن من نسل هارون والمسيح القائد المحارب من نسل داود، ليحرر أورشليم ويقضي على العدو المحتلّ ويملك على جميع الأمم والشعوب، فيتنعّم العالم بعد ذلك بالسلام. ويبدو أن حرب نهاية الأزمنة التي استعدّ الأسينيّون لخوضها هي الحرب اليهودية الأولى ضد الرومان (66-73م). التي ثبت اشتراك الأسينيّين فيها. وقد أدّت تلك الحرب الى سقوط أورشليم وهدم الهيكل على أيدي الجنود الرومان (70م).

خلال تلك الحقبة “المسيحانية” التي امتدّت بين سنتي 40 و73 ميلادية، بدأ الأسينيّون مرحلة إعادة الإنتشار من القرى والأماكن النائية إلى المدن التي غادروها منذ زمن بعيد ليكونوا على مقربة من أعدائهم، وذلك استعداداً ليوم “الثأر” والدينونة ضد “أبناء الظلمة”، وبشكل خاص ضد مخالفي الشريعة. وكان المتعاطفون مع الأسينيين الراغبون بالإنضمام الى تلك الجماعة، يتوافدون الى موقع “خربة قمران” الذي كان المقر الرئيس لتلك الجماعة. وبعد بقائهم قيد الاختبار مدة ثلاث سنوات، وقبولهم كأعضاء في الجماعة المذكورة، كانوا ينطلقون الى الأماكن التي يحدّدها لهم المسؤولون. وكان يوجد بين الوافدين الجدد رجال متزوجون وعندهم أولاد، فاضطرّ مسؤولو الجماعة الى سنّ قوانين جديدة تسمح بإنشاء ميليشيات رديفة من النساء والأولاد.”

ويضيف: “شهدت تلك الحقبة المضطربة من تاريخ فلسطين نشاطاً متزايداً لجماعات يهودية أصولية أخرى، كالزيلوت (Zélotes) والأسخريوطيين (Sicaires) الذين كانوا يترقبون أيضاً مجيء المسيح المنتظر ليحرّر أورشليم من عبودية الأمم. وكان هؤلاء يجاهرون علناً بعدائهم للرومان وينشرون الفوضى والاضطرابات، بعكس الأسينيّين الذين آثروا الاستعداد سراً.

وبعد أن أعاد الأسينيّون انتشارهم في قرى ومدن فلسطين وبخاصة في أورشليم، التقوا بالجماعة المسيحية الأولى. ونظراً للقواسم المشتركة بين الجماعتين، تمكّن بعض الأسينيين من التغلغل في صفوف الجماعة المسيحية للتجسس عليها والتأكد من إلتزامها بالشريعة الموسوية. ويبدو ان كنيسة أورشليم اتخذت جانب الحيطة والحذر خوفاً من الاضطهاد.

لكن سرعان ما وصل الى مسامع المسؤولين الأسّينيين في قمران خبر النجاح الباهر الذي حققه القديس بولس خلال رحلاته الرسولية في جعل عدد غفير من الوثنيين يعتنقون المسيحية بعد اعفائهم من واجب الختان. علماً أن بولس الرسول علّم ان المسيح افتدى المؤمنين من لعنة الشريعة وأن البار بالإيمان يحيا.

أمام هذا التحدي الكبير، كان على المسؤولين في قمران التصرف بسرعة، فأسّسوا جماعة ثانية من الأسينيين، كان بعض أعضائها من المتزوجين أو من اليهود القادمين من بلدان الشتات. فجاءت تلك الجماعة أشدّ شبهاً بالجماعة المسيحية الأولى، إذ زعم هؤلاء أنهم يمثلون “العهد الجديد” الذي كان بنظرهم تجديداً للعهد القديم القائم على الشريعة الموسوية. كما زعموا أن مؤسسهم هو “معلم البرّ”، في إشارة الى يسوع الناصري الذي اعتبره الأسينيّون رجلاً باراً تنبأ باقتراب زمن الدينونة. اما بولس فقد لقّبوه بـ “رجل الكذب” لأنه احتقر الشريعة أمام كل الجماعة. وهكذا، يمكن القول بأن الجماعة الثانية من الأسينيين التي تأسست حوالى سنة 50 م.، هي الجماعة اليهودية-النصرانية الأولى، بالمعنى الهرطوقي، في تاريخ المسيحية.

امتد نطاق عمل تلك الجماعة إلى خارج حدود فلسطين، وبخاصة في الأماكن التي سبق للقديس بولس أن بشّر فيها. وقد حاول هؤلاء إقناع الوثنيين والقلة القليلة من اليهود الذين اعتنقوا المسيحية، بالعودة إلى الشريعة الموسوية كسبيل ضروري للخلاص. ومن المرجّح أن المتهوّدين (Judaïsants) الذين أثاروا البلبلة في كنائس غلاطية وكورنتس في زمن القديس بولس، فنشروا “بشارة أخرى” وبشّروا “بيسوع آخر” (غلاطية 1: 6-7؛ رسالة بولس الثانية الى اهل كورنتس) 11: 4 مدّعين ان الخلاص لا يتحقق إلاّ بتطبيق الشريعة، كانوا من الجماعة الثانية من الأسينيّين التي تأسست حديثاً. وكان من الصعب جداً، وبخاصة على السلطات الرومانية آنذاك، التمييز بين الجماعة الثانية من الأسينيين والجماعات المسيحية الأولى، بدليل ما ذكره المؤرخ الروماني “تاسيت” عن حريق روما الشهير سنة 64 م.، إذ قال: “بهدف إسكات الاشاعات حول حريق روما، اتّهم نيرون اشخاصاً مكروهين بسبب أعمالهم الفظيعة، يسمّيهم العامة مسيحيون. وقد دُعوا بهذا الاسم نسبة إلى المسيح الذي سلّمه المحصل بيلاطس البنطي للعذاب في عهد طيبيريوس… ففي البدء قُبض على الذين اعترفوا بإيمانهم بالدين المسيحي، وبفضل افاداتهم تمّ اعتقال الكثيرين غيرهم. ولم تكن التهمة بسبب اشعال المدينة فقط، بل بسبب حقدهم على الجنس البشري” (Tacite, Annales, XLIV).

ومن المعروف أن تهمة الحقد على الجنس البشري لا تنطبق أبداً على المسيحيين الأوائل، بل على الأسينيّين الذين كانوا يستعدّون لشنّ حرب آخر الأزمنة ضد بني سام وحام ويافث، أي ضد الجنس البشري بكامله، كما هو ثابت من مخطوطة “نظام الحرب” (1QM, II, 10-14) التي عُثر عليها في مغارة قمران الاولى.

بعد دمار هيكل أورشليم سنة 70م. ووفاة رسل المسيح أو استشهادهم، وجد اليهود-النصارى من الأسينيّين المنتشرين في بلدان الشتات الفرصة سانحة أمامهم لمتابعة حربهم ضد الكنيسة. فأنشأ بعضهم الجماعة اليهودية-النصرانية المعروفة بالأبيونيين. وعمد البعض الآخر الى التسلّل الى قلب الجماعات المسيحية، فقبلتهم بعض الكنائس، ورفضتهم كنائس أخرى (رسالة يوحنا الثانية: 9-10). ومن بين هؤلاء نذكر يوحنا، صاحب “سفر الرؤيا”، الذي انتحل شخصية يوحنا الرسول، وشهد على ذلك عدد من مرافقيه. كما نذكر كاتب “الرسالة الى العبرانيين” الذي أنهى رسالته بإرسال تحيات وسلامات من القديسين في إيطالياً، لكي يوحي بأن القديس بولس هو صاحب الرسالة. علماً بأن هذا الأخير اعتاد منذ رسالته الثانية الى أهل تسالونيكي بأن يُنهي جميع رسائله بتحيات وسلامات يخطّها بيده كعلامة له في جميع رسائله (2 تس 3: 17).”

وعن رؤيا يوحنا يقول:

” تحمل “رؤيا يوحنا” أربعة أبعاد زمنية لأنها كانت في الأصل ثلاثة نصوص يهودية ويهودية-نصرانية مستقلة، كُتبت في تواريخ مختلفة، ثم دُمجت مع بعضها البعض حوالى سنة 95 ميلادية لتشكّل نصّاً واحداً، أجرى الكاتب الأخير – أي يوحنا- تعديلات كثيرة عليه، إضافةً وحذفاً، وصبغه بطابع مسيحي. وهذه النصوص هي كما يلي:

1- الرسائل إلى الكنائس السبع في ولاية آسية (الفصول الثلاثة الأولى من سفر “الرؤيا”). يتوافق مضمون هذا النص مع التعاليم التي نشرها المتهوّدون في بعض الكنائس التي أسسها بولس الرسول ورفاقه. فالتلميحات الواردة فيه حول وجود أناس يزعمون أنهم رسل، وهم ليسوا برسل (رؤ 2:2)، يدّعون أنهم يهود وهم ليسوا بيهود (رؤ 2: 9 و 3: 9)، ويشجّعون على الأكل من ذبائح الأصنام (رؤ 2: 15)، هي اتهامات موجهة ضد القديس بولس الذي رد عليها في رسالته إلى أهل غلاطية ورسالته الثانية إلى أهل كورنتس. ففي الرسالتين المذكورتين، دافع بولس عن رسوليته وتعاليمه (غل 1: 11- 2: 9)، وتهكّم على هؤلاء “الرسل الأكابر” الذين يتباهون بأنهم عبرانيون إسرائيليون فأكد أنه عبراني إسرائيلي مثلهم (2 كور 11: 21-22). وأبدى بولس في رسالته الأولى إلى اهل كورنتس قليلاً من التسامح لناحية الأكل من ذبائح الأصنام (1 كور 10: 25-29)، ما جعل أعداؤه يتهمونه بأنه يخالف الشريعة. أما بالنسبة لدعوة المسيحيين في كنائس آسيا إلى التوبة والرجوع إلى “حبّهم الأول” (رؤ 2: 4)، فالمقصود العودة للعمل بالشريعة كسبيل ضروري للخلاص. وقد ردّ القديس بولس على هذا الموضوع فأشار إلى وجود “بشارة أخرى” تهدف إلى تبديل بشارة المسيح (غل 1: 6-8) وإلزام المؤمنين بممارسة الختان في سبيل خلاصهم (غل 2: 16). وأكّد أن الخلاص لا يتحقق بالعمل بأحكام الشريعة بل بالإيمان بيسوع المسيح (غل 6: 15).

أما بالنسبة الى دعوة المسيحيين في ولاية آسيا الى ارتداء اللباس الأبيض (رؤ 3: 4 و 18)، فمن المعلوم أن الأسينيين كانوا الجماعة اليهودية الوحيدة التي تميّزت بارتداء اللباس الأبيض خلال الحقبة المسيحانية التي تميّزت نهايتها بدمار أورشليم وهيكلها. وبرأينا أن نصّ “الرسائل إلى الكنائس السبع” كُتب بين سنتي 54 و57 م. ولحقته بعض التعديلات على يد الكاتب الأخير حوالى سنة 95 م.، وذلك عند دمج النصوص الثلاثة المستقلة وصياغتها في نص واحد.

2-  النص الثاني من الرؤيا: (من الفصل 4 حتى الفصل 9) وفيه يعيش الكاتب حالةً جديدة من الانخطاف الروحي، إذ يشاهد عرشاً في السماء، ويرى بيمين الذي على العرش استوى كتاباً مخطوطاً من الداخل والخارج ومختوماً بسبعة أختام. ثم يعلن ملاك ان الحمل هو الوحيد الذي بإمكانه أن يفتَحَ الكتاب ويَفضَّ أختامَه. ومع فضّ الأختام تبدأ الويلات: سيف وجوع وطاعون ومصائب كثيرة، قبل أن تزلزلَ الأرضُ زلزالَها، و تسودَّ الشمسُ، ويصيرَ القمرُ مثلَ الدم، وتتساقطَ كواكبُ السماء إلى الأرض وتنقلعَ الجبالُ والجزرُ من مواضعها…

هذه الرؤيا هي يهودية-نصرانية لأن محورَها هو الحمل الذي يرمز إلى يسوع المسيح. وهي تخلو تماماً من التلميحات التاريخية، بعكس النصّين الآخرين. وهذا التمايز عن بقية أقسام الكتاب يثبت أن هذا النص كان في الأصل مستقلاً. وباعتقادنا أنه كتب في فترة ما بين سنتي 51 م. و 95 م. وقد أدرج الكاتب الأخير النص المذكور عند صياغة الرؤيا بشكلها النهائي (أي خلال البعد الزمني الرابع) لكي يتمكن من خلق مشاهد مزدوجة تسهّل عملية دمج النصوص المستقلة في اسلوب أدبي واحد يتميّز بالتكرار والغموض.

3- النص الثالث: يبدأ من الفصل العاشر حتى الثاني والعشرين، وهو نصّ يهودي بامتياز. إنه عبارة عن رؤيا ثانية تُعتبر وثيقة إعلان حرب مقدسة، أي حرب الأزمنة الأخيرة، ضد الإمبراطورية الرومانية. وتلك الحرب هي الحرب اليهودية الأولى ضد الرومان.

يتوقع كاتب هذا النص أن يتم القضاء على الامبراطورية الرومانية وملوك الأرض، لكنه يجهل نتيجة تلك الحرب ولا يشير إلى دمار الهيكل. وباعتقادنا ان هذه الرؤيا كُتبت في مطلع سنة 66 م. قبل اندلاع الحرب اليهودية الأولى بقليل.

يفتتح الكاتب هذا النص بمشهد ملاك هابط من السماء، وبيده كتابٌ صغيرٌ مفتوح. وبعد أن يتناول الكتاب ويبتلِعُه، يمتلأ جوفُه مرارةً ويبدأ بالتنبؤ. ويحفل النصّ بالتلميحات التاريخية التي تتمحور حول مدينة روما القائمة على سبع تلال (رؤ 17: 9)، وكذلك الامبراطورية الرومانية التي يصوّرها الكاتب على هيئة وحش له سبعة رؤوس ترمز إلى قياصرة روما السبعة الأوائل. فيقول إن خمسةً منهم قد مضوا، وسادسهم لا يزال حياً، أما السابع فلم يأتِ بعد (رؤ 17: 10). ومن خلال قوله بأن السادس لا يزال حياً، نستنتج أن الكاتب كان يعيش في زمن القيصر السادس، أي نيرون. ويتوافق هذا الأمر مع رقم الوحش 666 الذي يرمز إلى نيرون قيصر مكتوباً باللغة العبرية، لأن لكل حرف أبجدي في اللغات السامية مدلولاً رقمياً محدداً (ن-ر-و-ن-ق-س-ر= 50+ 200+ 6+ 50+ 100+ 60+ 200).

ويحتوي هذا النص على عبارة تُعتبر هرطقة إذا نُظر إليها بمنظار مسيحي. فقد جاء فيه أن الذين سينالون الخلاص، أي عبيدَ الله المختارين الذين سيرافقون المسيح على جبل صهيون، “لم يتنجّسوا بالنساء” (رؤ 14: 4)، ما يعني أنهم من الذكور فقط. وهذا يتناقض مع الإيمان المسيحي الذي لا يميّز في عملية الخلاص بين الرجل والمرأة والعبد والحر.

ولكن إذا قُرأ هذا النص بمنظار يهودي، تتوضح الفكرة. فالحرب اليهودية ضد الرومان كانت تُعتبر بنظر الأسّينيين، حرب نهاية الأزمنة، وهي حرب مقدسة. لذلك ترقب الأسّينيون زيارة الله لهم مع جيوش ملائكته لكي يسحق أعداءهم ويقضي على أبناء الظلمة. وبما أن الحضور الإلهي يستوجب الطهارة الفائقة والابتعاد عن كل نجاسة أو دناسة أو أي عمل جنسي، خشية أن يبتعد الله والملائكة عن ساحة المعركة، ما يؤدي الى خسارة الحرب. لذلك آثر الأسينيون المتزوجون (أي الجماعة الثانية منهم)، عدم القيام بأي عمل جنسي وإبعاد المرأة عن معسكراتهم خلال تلك الحرب المقدسة، لكي “لا يتنجسوا بالنساء” ويحافظوا على نقاوتهم وطهارتهم ترقباً لزيارة الله لهم لينصرهم على أعدائهم.

وفي الرسالة إلى العبرانيين يقول:

منذ زمن ليس ببعيد كانت هذه الرسالة تُسمّى “رسالة بولس إلى العبرانيين”، وقد اعتبرتها معظم كنائس الشرق قديماً في عِداد الكتب المقدسة، نظراً للاعتقاد بأنها صادرة عن القديس بولس نفسه. أما كنيسة روما، وهي العارفة بتراث بولس الرسول الذي استشهد في مدينة روما بالذات، فقد ظلت ترفض إدراج الرسالة إلى العبرانيين ضمن لائحة الكتب المقدسة حتى أواخر القرن الميلادي الرابع. لكن في عصرنا الحاضر، يرى علماء الكتاب المقدس، على اختلاف مذاهبهم، ان كاتب هذه الرسالة ليس القديس بولس (العهد الجديد، منشورات المطبعة الكاثوليكية، الطبعة الثانية، بيروت، 1969، ص 740). إذاً هناك شك حول أصالة تلك الرسالة.

لن ندخل في تفاصيل الرسالة إلى العبرانيين بل سنكتفي بتحليل الفقرة الأولى من الفصل السابع، التي ورد فيها ما يلي:

“فإن ملكيصادق هذا هو ملك شليم وكاهن الله تعالى، خرج لملاقاة إبراهيم عند رجوعه بعدما كسر الملوك وباركه، وأدّى له إبراهيم العشر من كل شيء. وتفسير اسمه أولاً ملك البِرّ، ثم ملك شليم، أي ملك السلام. وليس له أب ولا أم ولا نسب، وليس لأيامه بداءة ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله… ويبقى كاهناً للأبد” (عب 7: 1-3).

فما هي المصادر التي استقى منها الكاتب معلوماته لكي يسبغ على ملكيصادق صفة ألوهية من خلال قوله بأنه “ليس لأيامه بداءة ولا لحياته نهاية”.

لا شك أن سفر التكوين هو المصدر الأول الذي اقتبس منه الكاتب، إذ يتحدث هذا السفر عن ملكيصادق، ملك شليم (أي أورشليم) وكاهن الله العلي في تلك المدينة. كان ملكيصادق معاصراً لأبرام (ابراهيم) الذي عاش في القرن 19 ق.م. وبعد انتصار هذا الأخير على كدرلاعومر والملوك الذين معه، أخرج ملكيصادق خبزاً وخمراً وبارك ابرام الذي أعطاه عشر الأسلاب (تكوين 14: 18-20).

ويرد اسم ملكيصادق أيضاً في الآية الرابعة من المزمور 110 التي جاء فيها: “أقسم الرب ولن يندم، أن أنت كاهن لللأبد على رتبة ملكيصادق”. علماً بأن المزمور 110 موجّه الى المسيح المنتظر عند اليهود، أي القائد المحارب الذي سيجعل الله أعداءه موطئاً لقدميه، ويمدّ صولجان عزّته من صهيون فيتسلّط في وسط أعدائه، ويحطّم الملوك يوم غضبه، ويدين الأمم ويملأها جثثاً… (مزمور 110: 1-7)

استناداً إلى سفر التكوين، يتبين أن ملكيصادق هو شخصية تاريخية وإنسان من لحم ودم. وهذا ما أكده كلّ من فلافيوس يوسيفوس (37 م.-100؟ م.) وفيلون الاسكندري (13 ق.م.؟- 50؟ م.)، وهما من كبار علماء عصرهما في الديانة اليهودية وتاريخ الشعب اليهودي. والغريب في الأمر، أن يوسيفوس وفيلون لا يلمحّان أبداً الى الآية الرابعة من المزمور 110 خلال حديثهما عن ملكيصادق، كما لو أن تلك الآية لم تكن موجودة في أسفار الكتب المقدسة اليهودية التي كانا يقرآن فيها. وهذا الأمر جائز جداً لأن القول بأن المسيح المنتظر هو كاهن على رتبة ملكيصادق يتناقض مع شريعة موسى. فقد أكّد سفر الخروج أن الله كرّس الكهنوت لهارون ونسله الى الأبد (خروج 28: 1؛ 40: 13-15). أما ملكيصادق فهو ملك وثني أقلف، وليس من نسل هارون. ومن غير المعقول ألاّ تلقى تلك الآية أية ردّة فعل لدى علماء الشريعة اليهود عبر العصور السابقة لنشأة الكنيسة. بالإضافة الى ذلك، لا يوجد في أسفار العهد الجديد القانونية، وبخاصة في رسائل القديس بولس، أية إشارة الى ان يسوع المسيح كان كاهناً على رتبة ملكيصادق. ما يعني بأن الآية 4 من المزمور 110 هي إضافة يهودية-نصرانية متأخرة، لأنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالرسالة الى العبرانيين. ويُحتمل أنها أضيفت إلى المزمور 110 بالتزامن مع صدور تلك الرسالة أو بعد ذلك بزمن قليل، لأنها تُعتبر بمثابة تبرير لها.

يبقى السؤال عن المصدر الذي استقى منه الكاتب ليضفي على ملكيصادق صفة ألوهية.

يتبيّن من إحدى مخطوطات البحر الميت المسمّاة “أناشيد لذبيحة السبت”، ان ملكيصادق هو كاهن في المجلس الإلهي (4Q401, frg. 11, 3). وفي “مخطوطة ملكيصادق” التي تحمل الرمز (11Q13)، يلعب شخص ملكيصادق دوراً رئيسياً كشفيع حصة الأبرار، الديّان والمخلّص وملك الأزمنة الأخيرة. إنه إله في المجلس الإلهي. وهو ينجّي الأبرار من ملاك الظلمة بليعال، ويدين الشعوب.

إذاً، المصدر الوحيد الذي يتحدث عن ألوهية ملكيصادق هو بعض مخطوطات البحر الميت العائدة للأسينيين، وتحديداً الجماعة الثانية منهم. وبالتالي فإن كاتب الرسالة إلى العبرانيين ينتمي في الأصل الى تلك الجماعة. وقد انخرط لاحقاً في الجماعة المسيحية حاملاً معه بعض العقائد التي تتناقض مع جوهر الديانة المسيحية. فاعتبار ملكيصادق بمثابة إله مشابه لإبن الله يتناقض مع عقيدة الثالوث الأقدس. كما وأن القول بأن ملكيصادق هو تجسيد مسبق ليسوع المسيح، هو رأي خاطئ ناتج عن الاعتقاد بأن كاتب الرسالة إلى العبرانيين هو القديس بولس الرسول. وفي مطلق الأحوال، يبقى ملكيصادق كائناً متمايزاً عن يسوع، إذ أنه ملك وثني لا نسب له، بينما يسوع هو من نسل داود، كما أنه ليس لملكيصادق أب أو أم، بينما يسوع هو ابن الله، ووالدته هي مريم العذراء.

وخلاصة القول إن بعض اليهود الذين ينتمون إلى طائفة الأسّينيين، اعتنقوا المسيحية بعد دمار الهيكل سنة 70 م. بغرض دكّ الديانة المسيحية من الداخل، وليس عن إيمان حقيقي. والدليل على ذلك أنهم تمكنوا من إدخال نصوص منحولة إلى لائحة الكتاب المقدّس، تتضمن عقائد غريبة عن الانجيل وعن جوهر الديانة المسيحية، ونعني بذلك “رؤيا يوحنا” و “الرسالة إلى العبرانيين”. لهذا السبب كانت تلك النصوص موضع جدل بين الكنائس طوال قرون عديدة. فهل يوجد في لائحة الكتب المقدّسة نصوص أخرى تحمل طابعاً أسينياً، وكانت أيضاً مثار جدل بين الكنائس في القرون الغابرة ؟.

Post Author: SafirAlChamal