في مقال جميل نشرته جريدة النهار للزميل والأخ شوقي ساسين في 23 حزيران الفائت، ناقش استاذه السابق سليم جريصاتي في طبيعة المساحة الرمادية من الدستور التي يحاول من خلالها استرداد الصلاحيات الرئاسية الضائعة قائلاً:
” إنّي لأخشى يا معلّمي، في تلك المساحة الرمادية التي “مخَرْتَ عبابها، وجزت شعابها، أن يُصبح الدستور رمادًا، “والوطن محرقة.”
تقبل سليم الأمر بسعة صدر، وهاتف تلميذه القديم وأثنى على نجابته، وهو في هذا المضمار، من أمراء اللياقة.
لكنني وبسبب عدم تمتعي بنصيب كاف من لياقتيهما، عقبت على الأمر في مناسبات عدة، وقلت إن القانون ليس عجينة تشكلها حسب الطلب والمصلحة والهوى، وقلت أيضاً: إن الذي يتعامل مع النصوص على ذلك الوجه، تغلب صفة العجان فيه على صفة الشارح وذلك من غير تقليل احترامي لعمال الأفران.
هذا عن القانون، أما عن التاريخ، فإن الرأي المستقر عبر العصور والدهور، أنه ليس وجهة نظر، بل هو جواد رصين لا يتطامن متنه لكل من زعم نفسه فارساً، ولا يسلس الزمام لمن يجرى به في وعورة التزوير ومفازات الغرائز.
ما يدعوني إلى هذا، تغريدة لرئيس التيار الوطني الحر وتصريح، كانا بالنسبة إلي صدمتين فاقعتين، إذ يمكن لخطاب سياسي ما، أن يتذخر بما تساقط من الذاكرة الجمعية لابتعاد الشقة الزمنية، أما أن يلجأ وزير الخارجية السابق إلى سرد أمور لا زالت حية ومستمرة، ومدونة في المحاضر، فيوردها بشكل مغاير بل مناقض جداً للحقيقة، فأمر يقض مضجع الجبرتي والطبري وسواهما من المؤرخين .
هنأ الأستاذ جبران في تغريدته الحكومة، لأنها أقدمت ويا للهول على ما لم تستطعه الأوائل، فوضعت عودة النازحين السوريين على جدول الأعمال لأول مرة، ولعله كان يقصد بذلك أن يملأ فجوة الـ 3% التي قصرت عنها الحكومة في بيان الانجازات الذي أعلنه رئيسها، فتمم عليه بدره واكمل نوره؛ ولكن الحق يملي علي أن ألفته إلى الأحداث الموثقة الآتية إنعاشاً للذاكرة القريبة:
1- في أثناء رحلتنا إلى باريس للاشتراك في مؤتمر أصدقاء لبنان الذي نظمه الرئيس السابق فرنسوا هولاند في الأليزية، بمعية فخامة الرئيس ميشال سليمان وضيافة نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع دولة سمير مقبل في طائرته، عرضت رؤيتي لموضوع النزوح السوري على السادة المذكورين بموجب مذكرة خطية، أثنى عليها فخامة الرئيس أما وزير الخارجية فقال بالحرف الواحد (هذه أول مرة أقرأ ورقة غير خلافية).
2- في خلية الأزمة السورية برئاسة رئيس الحكومة وعضوية وزراء الخارجية والداخلية والعمل والشؤون، وكنت أنا مقرر تلك الخلية، طرح الاستاذ جبران ضرورة الحد من اللجوء السوري، فاعترضت وقلت، بل أنا مع منع اللجوء بصورة نهائية، ولما تساءل عن إمكانية فعل ذلك أكد وزير الداخلية نهاد المشنوق قدرته، وبارك الرئيس سلام هذا القرار وتحمس له وزير العمل سجعان قزي، وكلفتني الخلية وضع التقرير اللازم الذي عرض على مجلس الوزراء تحت عنوان ورقة سياسية للنزوح السوري، فأقرت بالإجماع يوم الخميس الواقع فيه 23/10/2014 رقم القرار 38، رقم المحضر 33.
3- منذ 5/1/2015 توقف اللجوء السوري تماماً رغم اعتراض الأمين العام الحالي للأمم المتحدة، انطونيو غوتيرس الذي تقبل الأمر بعد ذلك، بعدما شرحت له أسبابه الموجه.
4- اتخذت وزارة الشؤون قراراً أبلغته المفوضية السامية للاجئين بإسقاط قيد أي لاجىء لمجرد ذهابه إلى سوريا لأي سبب من الأسباب .
5- تقلص عدد اللاجئين من مليون و 300 ألف إلى 850 ألف بعد تلك التدابير.
6- كانت المواقف اللبنانية الصارمة تجاه هذه الأزمة ماثلة في المحافل العربية والدولية، ولقد توجها الرئيس سلام في مؤتمر نواكشوط إذ أعلن بصورة جازمة أن لبنان وطن نهائي لأهله فقط.
7- لقد صرحت في العام 2015 على شاشة الميادين مع الدكتور سامي كليب، وباشتراك على الشاشة مع وزير الاعلام السابق السوري المرحوم عمران الزعبي، باسم الحكومة اللبنانية، أننا جاهزون للتعاطي الايجابي مع أي خطة سورية لتسهيل عودة الراغبين من النازحين.
8- ليس لبنان هو الذي يمانع بعودة السوريين إلى ديارهم، بل الدولة السورية التي ترفض هذه العودة، وتربط الأمر بحوار يعتوره الإبهام.
9- اذا كان بمقدور الحكومة اللبنانية أن تتخطى الوضع الدولي وتعيد النازحين بناء على طلب الحكومة السورية، فعليها ألا تتاخر لحظة واحدة.
10- كان معالي وزير الخارجية يعترض دائماً على تسجيل الولادات السورية لدى مفوضية اللاجئين، بحجة الخوف من التجنيس، رغم أننا بينّا له أن عدم التسجيل يفضي إلى اعتبار المواليد مكتومي القيد، فيتعذر بالتالي خروجهم من لبنان.
أما التصريح الذي حمل فيه نبيل دو فريج والرئيس سلام مسؤولية عقد سوناطراك، فقد وقع على ذاكرتي وقعاً نابياً، وكذلك على محاضر مجلس الوزراء لأنه غض طرفه عن الموقف الواضح والعلمي للوزير المحترم الحاج محمد فنيش المؤيد لعقد سوناطراك كمن يتحاشى الألغام، بالاصطدام بأجسام نقية غير متفجرة، ناهيك أن حكومته الحالية هي التي تمسكت بالعقد، دون أن يعترض على ذلك. القانون ليس عجينة تخبز في أفران السلطة، والتاريخ لا يعاد سرده وفق المعايير الافتراضية، وهو يا معالي الوزير -أبيت اللعن- لا يرحم العابثين به.