بعد أن بلغت بنا الأمور أسفل الدرك منذ التاريخ، واجتاحنا الفساد من كل حدبٍ وصوب، وميزان العدالة اختل وبات شاهد زورٍ على الكبائر، وزهُق الحق وساد الباطل، وانهارت البلاد ماليّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وتربويّاً واتسع الفقر والعوز وجاعت العباد، وباتت أكثر المدارس والجامعات الخاصة وأعرقها تتعثر ويداهمها خطر الإقفال، فلا خطط ولا إمكانات حتى الآن ولا معالجات.
مؤسّسات تجاريّة هوَت، ومطاعم وفنادق أقفلت، أمننا الغذائيّ بخطر لأننا نأكل مما لا نزرع، كسوتنا بخطر لأننا نلبس مما لا ننسج، أمننا الصحيّ بخطر لأنه حكراً لمن استطاع إليه سبيلا. والأقبح من كل ذلك أننا لا نزال نتقاتل باسم الوطن وعليه لننهب مقدراته سياسيّاً وحزبيّاً وطائفيّاً ومذهبيّاً ومناطقيّاً وعائليّاً عابثين منتهكين مستبيحين كل شيء.
إثر ذلك أدعوكم لنقرأ معاً قليلاً بالتاريخ علنا نتعظ كيف تُبنى الأوطان وتستقيم العدالة ويسود الأمن ويعم الخير العام، من خلال تجربة حضاريّة مضى عليها أربعة ألاف سنة ويزيد.
نعم، إنها حضارة بابل التي قامت على القانون والإخلاص، حيث كتب حمورابي شريعة من 285 قانوناً، والتي رتبت ترتيباً يكاد يكون ترتيباً علميّاً حديث العهد، فقسّمت الشريعة الى قوانين خاصة بالأملاك المنقولة، والأملاك العقاريّة، وبالتجارة، والصناعة، وبالأسرة، وبالأضرار الجسيمة، وبالعمل،…الخ
استهلت هذه القوانين بمقدمة ورد فيها:
“أنا حمورابي الأمير الأعلى، عابد الآلهة، لكي أنشر العدالة في العالم، وأقضي على الأشرار والآثمين، وأمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء، وأنشر النور في الأرض وأرعى مصالح الخلق، أنا حمورابي الذي اختاره الإله “بل” حاكماً، والذي جاء بالخير والوفرة، والذي وهب الحياة لمدينته، والذي أمدَّ سكّانها بالماء الكثير، والذي خزّن الحَبَّ، والذي أعان شعبه في وقت المحنة، وأمن الناس على أملاكهم في بابل، حاكم الشعب، الخادم الذي تسر أعماله “الآلهة”.
ليختم بعدها بالتالي؛
“إن الشرائع العادلة التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي والتي أقام بها في الأرض دعائم ثابتة وحكومة طاهرة صالحة… أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكد… وبحكمي قيدتهم، حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء، وحتى ينال العدالة اليتيم والأرملة… فليأت أيّ إنسان مظلوم له قضية أمام صورتي أنا ملك العدالة، وليقرأ النقش الذي على أثري، وليلق باله الى كلماتي الخطيرة! ولعل أثري هذا يكون هادياً له في قضيته، ولعله يفهم منه حالته، ولعله يريح قلبه فينادي؛ حقاً أن حمورابي حاكم كالوالد الحق لشعبه… لقد جاء بالرخاء الى شعبه مدى الدهر كله، وأقام في الأرض حكومة طاهرة صالحة.
إليكم بعضاً مما حقق حمورابي من مشاريع عمرانيّة وتنمويّة جعلت من بابل أكثر بلاد الأرض حضارة وازدهاراً؛
ـ حفر قناة تحمل الماء الغزير لأرض “سومر وأكد” فحوّلت ضفافها الى أراض زراعيّة خصبة.
ـ ساهمت القناة بجمع الأهلين المشتتين وهيأت لهم المرعى والماء.
ـ أسكنهم مساكن آمنة
ـ جُمعت الأغلال والمحاصيل في مدينة بابل بهيكل ضخم ومخزن واسع، فكانت بمثابة مال يُستثمر، جنى منه أرباحاً وافرة.
ـ استخدم ما حصل عليه من الضرائب في تدعيم سلطان القانون والنظام، واستخدم ما تبقى من مال في تجميل عاصمة ملكه.
ـ أنشأ القصور والهياكل في جميع النواحي.
ـ أقام جسراً على نهر الفرات حتى تمتد المدينة على كلتا ضفتيه.
ـ نشطت حركة السفن التي لا يقل بحارتها عن تسعين رجلاً تمخر عباب النهر ذهاباً وإياباً.
ـ أضحت بابل منذ أربعة ألاف سنة من أغنى البلاد، فأنتجت ما تنتجه سائر بلاد العالم، وزادت الثروة.
ـ نشطت الفنون والعلوم، فباتت حضارة غنيّة وقويّة في علم الفلك وتقدّم الطبّ، وعلم اللغة، وأعدّت أول كتب القانون الكبرى، وعلّمت الأغريق مبادىء الحساب، وعلم الطبيعة والفلسفة.
في الختام أقول بغصّة ليتني كنت على زمن حمورابي،
فالفرق شاسع بين من يحمي شعبه ويبني لهم حضارة، ومن ينحر شعبه ويهدم فيه الأمل والثقة والكرامة والطمأنينة والإستقرار.
الكاتب: غسان الحسامي
أمين عام جمعية تجار طرابلس
رئيس رابطة الجامعيين في الشمال