يقول عنترة بن شداد:
لا تسقني ماء الحياة بذلة.
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل.
ماء الحياة بذلة كجهنم.
وجهنم بالعز أطيب منزل.
الإنسان لا يكون ذليلا نتيجة ما يصنعه به غيره وهو مكره لا حول ولا قوة له، فالشخص الذليل هو الذي استباح نفسه ووأد عزتها ودنا بطبعه وفتح باب الانبطاح فارتضى الذل لنفسه.
هكذا كان حال أكثرية اللبنانيين الى أن جاءت ثورة 17 تشرين الاول، فانقسم الشعب اللبناني الى قسمين:
الاول استفاق، جرّاء عوامل عديدة، فانتفض لنفسه، ونزع عنه ثوب الخضوع والخنوع، فأمسى عزيز النفس، يأبى الذلّ والإذعان ويرفضهما، واختار العزّة والإباء وصرخ بوجه الحرمان والقهر، وبات رافضا لما كان عليه من خضوع مذلّ للنفس.
في المقابل هنالك قسم ما يزال يمتهن العيش بذل وقبول معاملته معاملة العبيد من قبل الزعيم، فلا يرتفع صوته لرفض الخنوع والإذلال، وبقي صامتا يبتلع الإهانات المتكررة من دون أي ردة فعل، يستسهل حياة الذل وإقرار الضيم عليه عن قناعة لا لجبن أو جهل؛ وكلّما حاولنا نصحه بالابتعاد عن الزعيم الذي يسيء اليه والى ذريّته، والى العمل على تجنب ما يهينه ويحط من شأنه وقيمتِه، كلما استشرس مدافعا عن ممارساته المذلة محاولا شرعنتها وتبرير قبوله بها؛ فإذا ما استمر هذا المواطن اللبناني الداعم للزعيم، في العيش بذل ولم يستطع استعادة عزته، سيمرّر حتما مهانته وذلّته لابنه من بعده ولمجمل الأجيال اللاحقة، وسيصير الذل وكأنه طبع موروث ملازم لنا.
ثورة لبنان بدأت منذ قرابة الاربعة أشهر، تخللتها حركة كرّ وفرّ بين الشعب وبين سلطة لها ستة رؤوس أو أكثر، وكانت آخر محطات هذه الحركة، جلسة منح الحكومة الثقة، جلسة “ثقــة القرن” الكارثية، التي تشبه “صفقة القرن” الملعونة التي أذلّت الشعب العربي برمّته؛ برلمان وجّه للنّاس بنوعيهم أعلى أشكال ضروب الإذلال والاكتئاب، فارتفع لدينا جميعا منسوب الشعور بفقد الأهمية والأمل، وولّد لدينا هذا الإذلال، حالة من العنف والغضب الشديدين، فكرهنا كل شيء بما في ذلك أنفسنا، اذ أنه وعندما ينعكس الإذلال الى داخلنا فإن كره الذات يجعلنا غير قادرين على تلبية حاجاتنا، فتنعدم فينا الطاقة لمبادلة الآخرين مشاعر الحب والمشاركة والمواطنة.
ما هذا الاداء المهين الذي تمتّع به أشخاص منتخبين من الشعب؟ أو لا يعلموا أن ما من إنسان خلقه الله إلا وكرامته جزء من فطرته، وأن عزته هي التاج الذي يعلو رأسه؟ أو لم يقرأوا قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ؟ ألم يقل لهم من سبقوهم في الحكم، أن كل إنسان يولد كريما بالفطرة؟ فكيف لتلك الطغمة الحاكمة ان تسلبنا كرامتنا؟ وتجعل كل لبناني عبدًا خاضعًا لأهوائها ونزواتها؟ صحيح أنها تتمتع وتمعن بذلك منذ زمن، الا أن مشهديــة 11 شباط 2020 كانت مختلفة!.
ألهذا الحد أصبح اللبناني مُهانًا في بلده؟ وأصبح الزعيم بعيدا عنه في المكانة وأعلى شرفًا، معززًا مكرمًا مُهابًا محاطًا بكل عناية وتقدير؟ ألهذا الحد صار اللبناني المنتفض في الشارع في الدرجة الأخيرة في سلم ترتيب المواطنة؟ لا شك في أن كل لبناني نزل، أو لم ينزل، الى شوراع بيروت في هذا النهار المشؤوم، أحسّ أنه يعيش بدون كرامة، تحاك ضده المؤامرات والصفقات، وتقضى دونه الأمور، ويساق إلى الموت كالنعاج!.
لن ألوم أحدًا بقدر ما ألوم كل لبناني صامت، وكل جندي حمى تلك الحفنة التي تسللت ليلا كالخفافيش الى برلمان الجدران، من أجل الامعان في “دعوسة” الدستور والقوانين، تفننّوا في استجداء احتقار الشعب لهم فركبوا الدراجات النارية والاليات العسكرية واختبأوا وراء زجاج سياراتهم الداكن الاسود، كَلَونِ وجوههم التي خلت من عيون ترى ما كتبه الناس على الجهة الخلفية لتلك الجدران الفاصلة بينهم وبين شعبهم!.
نعم في 17 تشرين الاول انقسم الشعب الى قسمين بين مذلول وآخر منتفض لكرامته كما أوردت أعلاه، وفي 11 شباط انقسم البرلمان بين نوعين من النواب، فكان منهم من رأى ذلّ الناس وسمع صرخات الجياع واشتم راحة عرق شعبه فامتنع عن الحضور وهم قلّة، وبين من شارك في جلسة “ثقـــة القرن” فأضاع على نفسه أدنى أمـل بالخروج من حزمة “كلّن يعني كلّن”، فمشكور كل نائب امتنع عن حضور زفـّـة الذلّ التي عشناها أمس.
وبهــذا أفتح باب النقاش حول سؤال “ماذا بعد”؟ اذ علينا الانتقال من مرحلة “النحب” فوق جثثنا وجثة لبنان الذي قتله الفساد، الى مرحلة “نحت” مستقبل بلدنا، والجلوس حول طاولة مستديرة واضعين بعيدا كراهية بعضنا وفائض القوة الذي يتمتع به بعضنا لنعيد صياغة عقد اجتماعي جديد، هذا اذا ما أردنا الاستمرار باعتباره وطن يأوينا و يأوي أولادنا من بعدنا.