لا يُحسد الرئيس سعد الحريري على الوضع الذي وصل إليه هذه الأيام، أو بعبارة أدق على الوضع الذي أوصل نفسه إليه، بأيديه وأيدي فريقه السياسي، بعد تعنّت ومكابرة وصمّ آذان في وجه كل نقد وجه إليه، أو دعوة لتصويب أداء، إلى أن وجد الرجل نفسه شبه وحيد في الساحة السياسية في لبنان، معزولاً ومرفوضاً ومهيض الجناح.
قرابة عقد ونصف مضى على دخول الحريري معترك الحياة السّياسية في لبنان من بوابة اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، فوجد بين يديه، فجأة، إرثاً وزعامة سياسية سنّية ووطنية لم يرثها أحد من قبله؛ زعيماً وحيداً في طائفته، وزعيماً وطنياً لا تحصل كبيرة أو صغيرة في لبنان إلا بعد أخذ موافقته ورضاه، أو بعبارة أخرى عدم إعتراضه.
لكن هذه المسيرة السّياسية كانت مليئة بالأخطاء والسقطات، الكبيرة منها والصغيرة، ما جعله يفقد شيئاً فشيئاً هذا الرصيد السّياسي والوطني الهائل، إلى أن وصل إلى حدّ الإفلاس السّياسي والوطني، فضلاً عن تأزّمه مالياً، ليقف اليوم على مفترق طرق مصيري، سيكتب بعده فصلاً جديداً من حياته السياسية، إما إعادة نظر في كل تجربته السابقة أو إنهيار الحريرية السياسية، بشكل أو بآخر.
أولى السقطات أن الرجل لم يكن بحجم أبيه، ولا بعقله ولا طريقة تفكيره، ولا يحوطه فريق مستشارين يعتدّ بهم، فكان التعثر الدائم يلازمه في كل خطوة سياسية، إلى أن بدأ شيئاً فشيئاً يفقد بريقه السياسي وهالته، مرتكباً الخطأ تلو الآخر.
وأبرز ما يمكن أن يسجل في هذا الإطار النقاط التالية:
أولاً: تخلى الحريري تدريجاً عن الفريق السياسي والإستشاري الذي كان يقف إلى جانب والده، وكان يتسم بالخبرة وعمق التجربة، فاستغنى عن أكثريته، وأبقى وأتى بفريق جديد تنقصه الخبرة والمصداقية، وتغلب الإنتهازية والسطحية عليه.
ثانياً: على عكس والده والمخضرمين الذين كانوا بجانبه، إتصف الحريري الإبن بالإنفعال وبردّات الفعل، وقلة الخبرة وعدم النضوج كفاية في الميدان السياسي، بما جعله يعجز عن تدوير الزوايا، في بلد يعتبر تدوير الزوايا أحد أبرز مقومات السياسي الناجح.
ثالثاً: لم يراجع الحريري نفسه ولا تجربته، برغم كل السقطات السياسية التي ارتكبها في السنوات الأخيرة، وجعلته يفقد الكثير من إرث والده السياسي، في موازاة تلقيه خسائر كبيرة تكبدتها مؤسسات وشركات تجارية وإعلامية كانت مطوبة باسمه، وهي خسائر إرتدت عليه سياسياً وشعبياً ومالياً.
رابعاً: عندما ينقل عن الحريري وجمهوره صدمتهم بموقف القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر من مسألة تكليف الحريري تأليف الحكومة المقبلة، ورفضهما نهائياً تسميته، يبدو الأمر مستغرباً. فعندما نصح كثيرون الحريري أن لا يسير بالإفراج عن رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، وأن العفو والإفراج عن قاتل رشيد كرامي سيجعل يوماً يأتي يسير فيه آخرون يعفون عن قاتل رفيق الحريري، كما أن جعجع ليس حليفاً سياسياً له إنما له إرتباطاته الخارجية، ولكن الحريري لم يستمع لهذه النصيحة.
وعندما سار الحريري في التسوية الرئاسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، لامه كثيرون على خطوته وتخليه عن رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، الذي كان مرشحه، وأنه سيندم على هذا التخلي، ويبدو أن فعل الندامة لم يتأخر كثيراً.
خامساً: كان أبرز نقاط قوة الحريري تتمثل في دعم قوى خارجية له للوصول والبقاء في سدّة رئاسة الحكومة، وقطباً سياسياً لبنانياً رئيسياً، وعلى رأس هذه الدول المملكة العربية السعودية ودول الخليج وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، لكنه لمس أخيراً أن هذه الدول مجتمعة لم تعد متحمسة له ولا متمسكة به.
سادساً: عقد الحريري تسويات وأجرى مصالحات سياسية وقدم تنازلات إلى جميع خصومه السياسيين على الساحة اللبنانية، ومن مختلف الطوائف باستثناء أبناء الطائفة السنّية، الذي بقي رافضاً الإعتراف بأي جهة سياسية منهم، فحاربهم كما لم يحارب أحداً، وحاول جاهداً شطبهم من المعادلة السياسية، لكنه لم يستطع، واعتبرهم دائماً خصمه الرئيسي.
سابعاً: يقف اليوم الحريري على مسرح السياسة اللبنانية وحيداً، بلا حليف أو صديق فعلي يقف بجانبه خلال الأزمات. والمفارقة أن حلفائه السابقين تخلوا عنه واحداً تلو الآخر، كما أن شعبيته قد تدنت وسط جمهوره إلى حدود دنيا.