مع كل تعثر سياسي تنبري قوى الأمر الواقع المتحكمة بكل شيء في بلادنا إلى شحذ ألسنتها واعتلاء منابرها الاعلامية والسياسية للحديث بطريقة غرائزية عن مظلوميتها وتهميشها وضياع حقها وهي التي استحوذت على كل شيء.
ويبنى على ذلك في مجتمعنا “المتشظي” اصطفاف طائفي أو مناطقي بشع أعمى عنوانه “طائفتي دائما على حق” والأبشع يكون عندما ينحدر السجال السياسي إلى فجور إعلامي وسياسي ينتهك حرمة القيم والمقدسات.
وآخر تلك المهازل ما حدث على إحدى الفضائيات اللبنانية، حين يتساءل أحد المغمورين بطريقة استنكارية قائلا: ماذا يعني “كنتم خير أمة أخرجت للناس” في أمّة أحسن من أمّة؟
ويضيف الاعلامي الذي استضافه بدوره، قائلا :”القرآن الكريم على راسنا وعيونا، لكن هناك الآية الكريمة التي تقول “لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون”، “هذه توازي تلك”.
وقد أشعل هذا الكلام المنابر الاعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي وكان من الممكن أن يُعتبر ذلك سقطة وذلة لسان لولا أنها جاءت في سياق طويل من المماحكة السياسية، التي يحتاجها بعض الوصوليين لتحقيق شعبية ومكاسب سياسية على حساب الشراكة الوطنية.
وتبيانا لمعنى “الخيرية والعلو” الذي ورد في القرآن الكريم وتساءل البعض عن معناه نقول، الخيرية والعلو ليس خيرية استعلاء ولا علو إخضاع إنما هو تأكيد من الواحد الديان على وظيفة أهل الإيمان في حفظ الأخوة الإنسانية لذلك نقول:
علو وخيرية هذه الأمة هي التي حفظت التنوع الديني منذ الفتح الإسلامي في هذا الشرق ولم تحمه التوازنات السكانية او الإقليمية أوالدولية، فقد سجل التاريخ أن الفرز الديموغرافي ومحطات تهجير عرقيات وأديان ومذاهب بعينها حصلت عقب حروب الفرنجة، والحروب الاستعمارية التي انتجت الكيان الصهيوني والغزو الامريكي لأفغانستان والعراق وهو ما ضرب كل هذا التنوع وهجر المسيحيين وأحدث التقسيم الديموغرافي الذي نعيشه. وهذا ما هو مقصود لذاته، إستعمارياً، حتى يُعترف بالكيان الصهيوني كدولة قومية لليهود.
علو وخيرية هذه الأمة هو الذي دفعها لتقديم الدم لمواجهة مشاريع الغلو – المصنعة في الغرب والمصدرة إلى بلادنا، وذلك من أجل أن تحافظ على التعددية التي تحدث عنها القرآن.
علو وخيرية هذه الأمة يقوم على قول رسول الله عليه الصلاة: ” لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا لِأعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى”.
وترتفع خيريتك بمقدار ما تقدم من خير لأخيك الانسان فرسولنا الكريم عليه الصلاة، يقول:” خير الناس أنفعهم للناس”عامة.
علو وخيرية لن تتأثر بالحاقدين وأصحاب الإثارة السياسية والإعلامية الذين يريدون أن يحققوا أعلى نسب المشاهدة ولو على حساب الامن الاجتماعي والاخلاقي وستبقى علاقاتنا محكومة بقوله تعالى: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).
إن الذي يحمي المسلم والمسيحي السني والشيعي العربي والعجمي الأقلي والأكثري ليس الاحتماء بالامريكي والمراهنة عليه أو على العدو الصهيوني، بل هو مواجهة كل أشكال الاستعمار والاحتلال الغربي والصهيوني لبلادنا والالتزام بمبادئ القيم والعدالة السماوية وتحقيق الشراكة الإنسانية حيث لا يطغى أحد على أحد ولا يلغي أحد أحدا. فجميع من راهن على هذا العدو خرج معه ولم يعد في انتصار عام 2000.
إن الذي يريد أن يجمع الناس ويبني دولة القانون والمؤسسات عليه أن يحترم الناس لا أن يتعرض لهم ويهينهم في مقدساتهم عند كل مفترق بدعوى التساؤل والاستفهام. فكفى لعبا على حافة الهاوية….
ختاما، شاركت في تسجيل ندوة تلفزيونية غير مباشرة عن الصراع السني والشيعي والعربي والعجمي على إحدى الفضائيات وكنا خمسة ضيوف من عدة بلدان ومن مذاهب متنوعة.. ومشارب متعددة.. وبقليل من التفاهم والتنسيق قبل التسجيل اتفقنا رغم اختلافنا على أن نقدم للمشاهد حلقة راقية وهادئة وعقلانية بعيدا عن التقاذف بالتهم لتخفيف الاحتقان المذهبي المفتعل في المنطقة فالصراع سياسي لا مذهبي، وكان لنا ذلك.
لكن الملفت أنه أثناء الاستراحة بين فقرات التسجيل جاء مساعد مدير البرنامج ليقول لي بكل بساطة، الحلقة باردة يجب أن يكون هناك “حماوة وإثارة” وإلا فلن تعرض الحلقة!..
مر أسبوع.. وأسبوعين.. وكما قال مساعد مدير البرنامج.. لم تعرض الندوة للمشاهدين!! سألت من يعنيه الأمر فأجب، عظم الله أجركم.. طارت الندوة.. إبتسم أنت في لبنان!!..