ليس خافيا على أحد بأن الرئيس سعد الحريري أصدر قرارا بعد إنتخابات العام 2009، باغلاق أبواب مؤسساته في طرابلس بما في ذلك المستوصفات ومكاتب الخدمات، وبصرف أكثرية موظفيه، وباقفال حنفية المساعدات المالية والعينية، وذلك بحجة أزمته المالية التي دفعته الى ترك طرابلس لمصيرها، متجاهلا كل الوعود التي أطلقها قبيل الانتخابات بتنمية وإنماء المدينة.
لم يكتف الحريري بتجفيف منابع خدمات تياره في طرابلس، بل لم يعط المدينة أي إهتمام خلال توليه حكومة الوحدة الوطنية، وعندما إستقالت حكومته وتسلم إبن طرابلس الرئيس نجيب ميقاتي رئاسة الحكومة دعا الحريري الى يوم الغضب المشؤوم الذي فتح باب عودة التوترات الأمنية التي أنتجت جولات عنف حصدت 185 قتيلا ونحو 2550 جريحا، وذلك تحت شعار تشكيل حكومة بالشراكة مع حزب الله، علما أن الحريري كان في الحكومة السابقة شريكا لحزب الله، وبعد أن إستقال الرئيس ميقاتي إجتمع ″زعيم المستقبل″ مع حزب الله في حكومة الرئيس تمام سلام، وعقد معه 43 جلسة حوار، ثم بعد ذلك شكل حكومته بالتعاون والتنسيق والشراكة مع حزب الله والتيار الوطني الحر الذي إنتخب الحريري زعيمه الحليف للحزب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية.
تناسى الحريري كل شعاراته التي أطلقها خلال حكومة ميقاتي بأن ″لا حوار وشراكة ولا جلوس مع الحزب إلا بتسليم سلاحه الى الدولة وخروجه من سوريا وتسليم المتهمين بقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى المحكمة الدولية″، لكن بدا واضحا أن هذه اللاءات كان هدفها واضح وهو تطبيق مقولة ″قم لأقعد مكانك″ حيث تم إحراق طرابلس بالتحريض السياسي والمذهبي حتى كادت أن تتمرد على الدولة سعيا من الحريري وراء كرسي الحكم، ومع وصوله إليه، عاد الى التعاون مع حزب الله، ما يؤكد الكلام الذي قاله الرئيس نجيب ميقاتي في مهرجان لائحة العزم قبل أيام، بأن ″الحريري عندما يكون في الحكم يضع طرابلس في جيبه وينساها، وعندما يكون خارج الحكم يستخدم طرابلس كمحرقة وفق قاعدة: ″أنا أو لا أحد″.
مع مجيئ حكومة تمام سلام وتلاقي الخصوم فيها، وتوقف آلات الحديد والنار في طرابلس بفعل الخطة الأمنية، وَعَدت الحكومة أبناء المدينة بأن يترافق الأمن مع الانماء، فاستمر الأمن الى حدود العسكرة، وتم توقيف أكثرية الشباب، وغاب الانماء، ليخرج الرئيس سعد الحريري في برنامج ″كلام الناس″ مع الزميل مرسال غائم في ″مسرحية إنمائية″ حيث جمع فريقه عبر سكايب، وأعلن عن تبرعه لطرابلس بمبلغ عشرين مليون دولار بهدف مسح صورة الحرب، وكلف فريقه بترميم المنازل والمحلات التجارية المتضررة، وبانشاء عدة مدارس، لكن ذلك بقي حبرا على ورق، فلا العشرين مليون دولار صُرفت، ولا أي من هذه المشاريع أنجزت. أتى الحريري على رأس حكومة عهد الرئيس ميشال عون الأولى، وبدأ مشوار التنازلات السياسية والتفريط بصلاحيات رئاسة الحكومة، وأكمل سياسة إدارة الظهر لطرابلس وصولا الى مصادرة حقها في التعيينات الادارية وفي وظائف الفئة الأولى، كما أن حكومة الحريري إستكثرت على المدينة تعيين مجلس إدارة جديد لمعرض رشيد كرامي الدولي، ولمجلس إدارة لمرفأ طرابلس، لأن ذلك يجب أن يحظى بموافقة الوزير جبران باسيل الذي كشف كثير من الوزراء، بأنه يريد أن يتلاعب بالتوازن الطائفي في هذين المجلسين الطرابلسيين لمصلحته، وهو ما يزال يعطل تعيينهما، في وقت لا يحرك الحريري ساكنا أمام هذا التعطيل، لا بل يغض النظر عن إجتياح التيار العوني لطرابلس سواء في القضاء أو في قاديشا أو في الوظائف العامة، كما لم يف الحريري بوعده في عقد جلسة لمجلس الوزراء في طرابلس، حتى عندما زار طرابلس قبل أيام لشد عصبه الانتخابي، لم يأت على ذكر الجلسة الموعودة للحكومة، ولم يطرح مشروعا، أو يقدم برنامجا إنتخابيا للائحة ″الخرزة الزرقاء″ بل إكتفى بالتحريض على قيادات المدينة فقط، ووعد في حال فوز لائحته بأن يأخذ ″سيلفي″ مع الطرابلسيين لا سيما أبناء المناطق الشعبية الفقيرة الذين يحتاجون الى محاربة الفقر بفرص العمل.
ليس خافيا على أحد أيضا، أن الرئيس نجيب ميقاتي وعلى مدار السنوات التسعة الماضية تفوق على الحريري سنيا وسياسيا وخدماتيا، حيث إلتزم بثوابت دار الفتوى، وحافظ على صلاحيات موقع رئاسة الحكومة، وعلى هيبة الموقع السني الأول، وحمى الموظفين السنة الذين كان حزب الله يريد رأسهم وأبقاهم رغم كل الضغوطات في مناصبهم، وخصوصا المهندس عبدالمنعم يوسف الذي إستبعده الحريري وحوّله الى القضاء إرضاء لبعض قوى 8 آذار، لكن القضاء برأ يوسف من كل الاتهامات الأمر الذي أحرج الحريري أمام أبناء الضنية الذين يعتبر كثير منهم أنه لم يدافع عن إبنهم وتركه لقمة سائغة في فم الخصوم.
لا ينسى اللبنانيون أن الرئيس نجيب ميقاتي قام بتمويل المحكمة الدولية لسنتين متتاليتين، علما أن ملف التمويل وصل الى حكومة الرئيس الحريري قبل إقالتها بنحو شهرين من دون أن ينجز، كما لا ينسى اللبنانيون أن ميقاتي خاض حروبا على عدة جبهات من أجل الحفاظ على الصلاحيات، والحفاظ على المواقع السنية الأخرى، ما دفع ببعض المقربين من حزب الله الى التأكيد بأن تجربة الحزب مع ميقاتي كانت صعبة للغاية، وأنه مستعد للتعامل مع ألف سعد الحريري ولا نجيب ميقاتي واحد.
في السياسة لا يختلف إثنان على أن الرئيس ميقاتي ساهم في حماية لبنان من الصراعات المحيطة به عندما إبتدع شعار النأي بالنفس الذي حاربه الحريري الذي كان يريد أن يدعم الثورة السورية، لكن الحريري عاد وتبنى شعار النأي بالنفس الى حدود الايمان به كحكمة وطنية، حتى أن كل السلوك الذي مارسه ميقاتي في الحكم عاد الحريري وتبناه في مسيرته.
أما في الانماء والخدمات، ففي الوقت الذي غاب فيه الرئيس الحريري كليا عن طرابلس سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى إعطائها حقها من قبل الدولة، كان الرئيس ميقاتي يقدم من ماله الخاص حيث وفر أكثر من ألفي فرصة عمل، ويستعد لتوفير عدد مماثل في المشروع الطرابلسي الجديد الذي سيباشر به بعد الانتخابات، كما رمم عددا كبيرا من الأسواق والمساجد الأثرية والمدارس والمنازل، وأنشأ المستوصفات وقدم الخدمات الطبية التي وصلت الى 700 ألف خدمة، وأعطى المنح المدرسية والجامعية التي طالت أكثر من 15 ألف طالب، إضافة الى خدمات كبرى للقطاع الاجتماعي، ولخلية النحل التي تعمل تحت إشرافه في شهر رمضان، فضلا عن القطاع الحرفي الذي يضم: صناعة الصابون، الشمع، الرسم والتلوين، القش، الحياكة والتطريز، وكذلك القطاع الرياضي المتمثل بنادي طرابلس بكرة القدم ونادي الزهراء بالكرة الطائرة وكلاهما في الدرجة الأولى، وتبني العديد من الأندية الرياضية ودعم الأنشطة الرياضية المختلفة، وكذلك القطاع الاستثماري وقطاع التكنولوجيا، وتأسيس شركة “نور الفيحاء” التي تعطلت بفعل الكيدية السياسية.
يمكن القول أن الرئيس ميقاتي يقوم في طرابلس مقام الدولة، وهو يطرح اليوم شعار إستعادة قرار طرابلس ليكون للمدينة كتلة نيابية وازنة يستطيع من خلالها تنفيذ ما تحمله جعبته من مشاريع، علما أنه عندما كان رئيسا للحكومة وبالرغم من كل التعطيل والتوترات وجولات العنف ومحاولة ربط المدينة بأحداث سوريا، فقد تمكن ميقاتي من إقرار مئة مليون دولار ما تزال في أدراج الحكومة، وتطوير مرفأ طرابلس ليصبح منافسا لأكبر وأهم المرافئ في المنطقة، والعمل على إنجاز بناء المبنى الجامعي الموحّد، وصرف اعتماد بقيمة 53 مليون دولار لكلية الهندسة، و63 مليون دولار لكلية العلوم، وإتمام تشييد قصر العدل الجديد، وإطلاق العمل في سوق الخضار الجديد، ووضع خطة لتحويل منشآت النفط في البداوي إلى مركز تخزين استراتيجي، وإفتتاح القاعة الرياضية المغلقة في الميناء بعد 29 سنة من الانتظار، إنجاز مشروع البنية التحتية، وغيرها الكثير من المشاريع الأخرى.
يمكن القول أن طرابلس ستقف في الانتخابات يوم الأحد المقبل أمام نهجين، فإما الاستمرار في نهج إدارة الظهر والاستخدام السياسي والأمني، أو العمل على تعزيز نهج الاحتضان والرعاية والسعي الى خدمة المدينة وأهلها.
مواضيع ذات صلة:
-
حزب الله يفضّل الحريري على ميقاتي… غسان ريفي
-
لماذا يصرّ تيار المستقبل على إستفزاز الطرابلسيين؟… غسان ريفي
-
لماذا إستعان الحريري بودائع سوريا وحزب الله في لوائحة؟… غسان ريفي