لبنان في ظل التهويل الإسرائيلي والدولي.. يا جبل ما يهزّك ريح!.. وسام مصطفى

اعتاد لبنان، عند كل مرة تشتعل فيها جبهة الجنوب أو حين تشهد الساحة الفلسطينية حربًا بين حركات المقاومة والاحتلال الإسرائيلي، أن يشهد سيلًا من المواقف المحليّة التي تطالب بتحييده عن أي تطوّر قد يترك تداعياته السلبية على الأمن والاستقرار الداخلي. ويتزامن ذلك مع اتصالات ومواقف دولية تنذر وتحذّر المسؤولين اللبنانيين من مغبة توسيع دائرة النار، فيما تزدحم بيروت بحضور شخصيات دولية – كان آخرها حضور فرنسي بوكالة أمريكية – تتأبّط تهديدات صريحة متناغمة مع تهديدات إسرائيلية بتدمير لبنان وإعادته إلى العصر الحجري في حال دخلت المقاومة على الخط الفلسطيني، أو “ارتكبت أي خطأ” من شأنه تجاوز خطوط الاشتباك المرسومة منذ العام 2006.

هذه المعزوفة القديمة – المتجدّدة ما تزال تأخذ مكانها في المقام اللبناني، ولكن فقط على مستوى الترداد والتذكير وليس على مستوى الفعل والتأثير، وكأنّ دوائر القرار في العواصم الكبرى لمّا تصل بعد إلى قناعة بأنّ هذا النوع من السياسة الذي يعتمد الصياح والتهويل لم يعد له فعالية في تغيير المعادلات، ففي كل محطة صراع ناري مع إسرائيل، سواء في لبنان أم في فلسطين وحتى في سوريا واليمن والعراق، كانت الكلمة الفصل للميدان الذي يشكّل زوايا الصورة التي ترسي عليه التطوّرات. وغالبًا ما ينتهي المشهد المتفجّر باتفاق مؤقت أو تسوية مرحلية تحمل معها شكلًا من أشكال التهدئة أو الهدنة، إذ مجرّد التفكير باحتمال وجود حلّ جذري أو مستدام لأي أمر متعلّق بالمسألة الصهيونية يعدّ ضربًا من ضروب المراهقة السياسية.

ليس في هذا الكلام نزعة تشاؤمية أو تحليل مستند إلى نظرة سوداء، في ما يتّصل باستشراف المرحلة المقبلة، بل هو تقدير واقعي مستند إلى محطات الصراع مع “إسرائيل” منذ زرعها على أرض فلسطين المحتلة. فاليهود الصهاينة لم يعترفوا يومًا بحق الشعب الفلسطيني في أن يكون له دولة مستقلّة يمارس فيها حقه في تقرير المصير، ولا حاجة لإعادة استقراء المواقف التأسيسية للمشروع الصهيوني الذي يجاهر بالسعي لتشريد كل ما هو عربي أو فلسطيني على أرض فلسطين. فهي مواقف لم تُخفَ يومًا؛ بل تتصاعد باضطراد وصولًا إلى حكومة بنيامين نتنياهو التي أعادت نبش المخطط الأساسي الذي سوّق له بن غوريون، وسعت حكومات العدو المتعاقبة إلى تنفيذه، تارة تحت عنوان “إسرائيل الكبرى” وطورًا تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد”.. وهذا يقودنا بالتالي إلى تأكيد قاعدة أولى تفيد بأنّ لا إمكان لأي اتفاق مع “إسرائيل” – حتى لو أردنا نحن ذلك – وأي وقف للحرب هو في الواقع أشبه باستراحة حرب تتيح للصهاينة إعادة حساباتهم السياسية والعسكرية تحضيرًا للجولة الجديدة.

إلى هنا ونعود إلى المسألة اللبنانية، والتي من الطبيعي أنها لا تنفصل عن حلقة الصراع الدائر في فلسطين، ليس من باب الاتصال في سياق الانتماء القومي العروبي، ولا من باب الاعتقاد بالصلة العقدية الدينية، ولا حتى تطرّفًا من باب التعاطف والجذب العاطفي مع الإنسان الفلسطيني الذي تقلّبت أجياله على عيش المعاناة والنكبات والقتل والمجازر والتهجير؛ بل من باب الحد الطبيعي من الشعور بالمواطنة، وانطلاقًا من المصلحة اللبنانية التي تقتضي من كل مواطن أن يسعى لحماية أرضه ودولته، والشعور بالتكامل مع الشعب الذي يعيش في حدود الإقليم الواحد ذي السيادة الكاملة. إذ إن التجربة التاريخية أكّدت أنه لا إمكان للتقارب أو التعايش مع كيان قام على الاغتصاب والقتل والعدوان، فكيف يمكن الاطمئنان إلى هكذا كيان من دون أن يكون لدينا حد أدنى من الاستعداد للدفاع عن النفس؟! وكيف نشرّع له أرضنا وهو لم يخفِ يومًا مطامعه في جعل لبنان محميةً له يستبيح خيراته ويستولي على مقدّراته وثرواته الطبيعية؟! فكيف والحال اليوم في ظل اكتشاف الطاقة النفطية الدفينة في البحر اللبناني؟!

إن القضية عند “إسرائيل” لا تقف عند حدود هيمنة جغرافية؛ بل هي قضية استباحة شاملة لا تقبل فيها إلا أن تكون في موقع السيادة والهيمنة والباقي في موقع الركون والاستعباد.

ونبقى في المسألة اللبنانية والتجربة اللبنانية التي أكّدت نجاعة الخيار المقاوم الذي حرّر معظم الأرض المحتلة، في العام 2000، من دون أي قيد أو شرط أو ترتيبات أمنية، وأسقط مشروع الهيمنة الأمريكي – الإسرائيلي على المنطقة في العام 2006، وهذا الخيار نفسه هو الذي كسر الاجتياح التكفيري الذي كان يسعى إلى إقامة إمارات السبي للمسلمين والمسيحيين في لبنان، وشكّل -وما يزال- يشكّل طوق حماية من أي خطر خارجي أو عدوان يستهدف أرضه وشعبه ومؤسساته، وأرسى معادلة تفوّق الردع وأجبر الاحتلال على الرضوخ لمنطقه الميداني. والأهم من كل ذلك أن هذا الخيار لم يطرح نفسه بديلًا عن الدولة، بل طالما أكّد قولًا وفعلًا أنه في خدمة هذه الدولة ومؤسساتها وفقًا لمعادلة الشعب والجيش والمقاومة.

لقد أثبت لبنان، بصمود شعبه وبسالة جيشه وتضحيات مقاومته، أنه عصيّ على التهديد، لا بل إن المفارقة الراهنة في معطيات الحوادث الجارية على الجبهة الجنوبية من جهة والجبهة الفلسطينية من جهة ثانية تقدّم صورة فريدة، حيث يواجه الكيان الصهيوني ولأول مرة منذ تاريخ نشوئه أزمة وجودية وانقسام عامودي مدمّر وسط ضيق الخيارات، لا سيما أن سياسة التجزير والقتل بحق المدنيين في قطاع غزة انقلبت عليه سلبًا ووضعته والولايات المتحدة الأمريكية في خانة الرفض والانتقاد عند الرأي العام العالمي.. وهذا ما سيدفعه عاجلًا أم آجلًا إلى الرضوخ في حين ما يزال لبنان محافظًا على تماسكه السياسي، على الرغم من أزماته المفتعلة التي عصفت به من كل حدب وصوب، وهذا يؤكد أنه كلّما حافظ لبنان على مكامن قوته في الدفاع ورد العدوان كان آمنًا لا تهزّه التهديدات ويبقى صامدًا في وجه العواصف.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal