كتاب للدكتور خليل الدويهي.. الشباب الزغرتاوي والستينيات!… جان رطل

من بين سطور كتابه ″حركة الشباب الزغرتاوي وستينيات زغرتا إهدن 1960-1969 ″ يظهر جليا ان هدف الدكتور خليل الدويهي هو حفظ ذاكرة عقد من الزمن حركها شباب زغرتاوي بسبب المرارة التي تلت أحداث 1958 باعتبار انها وقائع لقنت درسا مفاده ان العائلات لم تعمل ابدا على تقريب الهوة بين الناس.

ان الدكتور خليل يستعين بما سجله في مفكرته اليومية والوقائع حفظت ذكرها وقد أورد منها ما أورد واسقط ما لم يناسب، تاركا بعضها ربما لخروجها عن السياق العام، متدثرا اسراره سالكا سبيل التلميح أحيانا، من المقدمة، باعتبار ما ساقه كتابة فيها رغبة لإيراد موقعة أو قسم من التذكر لأحداث جسام جرت سابقا مع حركة الشباب الزغرتاوي التي انشأها شباب تجرأ على الوضع القائم فرمى على بحيرته الراكدة حصاة لتحريكه.

استخدم الكاتب لجزء كبير من كتابه نصوصا فيها الكثير من النفس الجانح نحو الحنين من خلال وصف الاماكن وبكثير من ” التجلي ” كما ظهر متحدثا عن ما تعني له إهدن ونواحيها وكيف يراها حيث يرى علاقة الانسان بالإنسان اكثر من تاريخ عادة وإلفه.

بعد هذا المدخل الوجداني يذهب ليقول عن الزمن المتحدث عنه انه هو “زمن لا صوت له غير صراخ الأرامل تحت مطرقة القتل”، والى تدوين فصول يبني عليها الكتاب قماشته من بين ما يبني عليه ،حادثة مزيارة ،التي وقعت في 16 حزيران 1957 وما تلاها من تشرد . حيث كم من المنازل غادرها أصحابها فأصابهم النزوح من مكان الى آخر. فغاب الاحترام الذي ينبغي ان تعامل به العائلات اشباههم وأمثالهم وينطلق الى وضع الخلفيات العامة والى حادثة اغتيال والده ومعه شخص آخر. فاصبح من بعدها وقبلها القتل يستدعي القتل وبدأ عليك ان تتعرف على موتك منذ لحظة ولادتك! واصبحت البيوت في المناطق مفصولة عن بعضها بخطوط تماس وإحساس باليتم يخيم على الراوي فالعيش في البيت لم يعد وليس مكانا  مثاليا .

ويأتي من بعدها سياق السرد عن ايام الصيف وزيارة “دير قزحيا” واللعب ومواعيد اللقاء والسباحة في بئر “حاوز”. وذكر مصدر آخر يبدو معجب به هو من قصص جبران خليل جبران ويحكي عن المطبعة التاريخية التي استقدمت سنة 1610 والتي لا زال يحتفظ منها بحرف واحد. كل هذا ليقدم للغوص في أعماق الذات وسبر أغوار القداسة حيث الناسك الذي يتبرك به زوار وحيث ان الدير هو مكان منذور لشفيعه الأول مار انطونيوس.  

اما بعد فإنه يدخل الى حرش اهدن واصفا كل ما فيه من نباتات واشجار وينابيع .ويصل الى فصل “الجرح المفتوح” حيث يسرد حادثة حجزه ومن ثم إخلاء سبيله لأسباب عائلية معقدة. ويتابع رحلته في الستينيات ليأتي على مراحل متابعة مطلب انشاء ثانوية والخلفيات السياسية التي رافقتها وتحول ولاءات العائلات وسلوك بعضها تجاه بعض وفهم اسباب التقاتل. بعيدا عن ذلك ومن خلال يوميات يحدد الصعوبات التي ترافقت مع موقف العائلات وقسمة الثانوية على منطقتين التحتا والفوقا. أما على هذه الخلفية أيضا فبعض ما يقال :” اللي بدو يخسر ولدو يعلّمو ” في الوقت الذي كان فيه الشباب المتحمس لإنشاء الثانوية مدفوعا نحو الثقافة والفكر. 

يذهب المؤلف في رحلة تبحث عن كل الأنشطة المدنية في البلدة من كرة القدم الى المهرجانات الصداقة بين الأفراد حيث بالتوازي ظهرت “حركت الشباب” متحررة من الالتزام العقائدي السائد في تلك المرحلة الزمنية. وبعيدا عن المسعى للمكاسب و الغنائم. ايامها انقسم الشباب ،شباب البلدة ككل، الى ملتحق بالعائلي وآخر اللا عائلي التي تمثل فيها و بها تجربة المواطنة التي كانت تجل الحرية وتسعى لادخالها الى قاموس اهل البلدة. كما افساحا للمشاركة الحوارية العامة ابتعادا عن تنظيم الأعمال الثأرية.

وأتى ” الجيل الجامعي” الذي تقرب من بعضه في بيروت في أماكن اقامته اكثر من ما كان يجري في البلدة حيث اصبحت تعقد الصداقات مع كل فئات المجتمع والعائلات. وهناك تنوعت التيارات الفكرية والفنية التي تقدمها المدينة لكل قادم من خارجها. فاصبح الطلاب في ساحة منفتحة على حياة أفضل فألصقت بالشباب عندها يافطة اليسار. وكان يقابلها العائلية التي تقدم لنفسها وكأنها قوة لا تتحرك سوى للخير العام للبلدة.    

بعد كل هذا التمهيد يصل الى صلب الأفكار التي تأتي على نوع من الكتابة يجمع بين المصالحات وبين ارث العائلية الثقيل والفكر الجديد طارحا ذلك في فصول متنوعة الحجم لها العناوين التالية تأخذنا من الوجداني الذاتي الى العام ومنها هذه الفصول: من أنت؟، بين السلطة والتسلّط، ثقافة العائلية، ثقافة الأمن، الرقابة العائلية، الخروج على العائلية، القلق، التأملات، ووصولا الى اليوميات. حيث يظهر في كل فصل انه يتوسع بما يقدمه العنوان.

ولا تغيب عنه صنعة الأدب حيث في كل فصل يتحول الى ايضاح نقطة يشبعها من التفاصيل مستندا الى لغة تلميح .مثال ذلك من ينتصر يكتسبون الألقاب، كلهم يعتبرون ملكية خاصة، العائلية والاعراف يجب ان تطاع لحفظ الشخصية وكراماتها. ويحكي ايضا عن العصبيات. لكنها لا تبتعد عن الحفاظ على حركة التواصل، التسامح والتعارف والتقارب، ربما، والمساعي الشبابية الى تأمين الحياة الأفضل تهتم بحاجات الفرد النظرية التي تمثل الأحلام كما الحياة المادية اي الحياة اليومية التي ترتاح بالإفصاح عن الهوية العائلية بدون ان يكون مجبرا على اظهار بهاء كاملا لفرديته. حيث كانت “الحركة” تبحث عن اظهار والتعريف بالأفق من دون نزوع ايديولوجي.

يشرح د. خليل بلغة الذاكرة ولغة المصالحات بين القديم والجديد مع نزوعه لعدم التفخيم للعائلية ولكنه مع ذلك يقول أيضا: “أعرف ان اهدن فيها عائلات مبدعة وفيها ساسة بارعون ورجال دين تزدهي بهم حياتنا .وأعرف ان فيها نساء هن بهاء وشبابا بارزات”. هذا ما يخرج عن احتمالية استخدام لغة وبينات إلغائية عن الصراع الذي دار وتناوله في فصول الخروج على العائلية وهو مبثوث في فصل “التأملات” التي يظهر وكأن ما كتب فيها مستل من كتابات قديمة كانت ترافق حدوث الوقائع يوما بيوم. وكان وقتها الهدف : ” تأسيس مرحلة جديدة للبلدة ركائزها الانفتاح والتصالح ووقف هدر الدماء ،لأبناء البلدة الواحدة، كنا ننادي بتطبيق القوانين على الجميع. لم نغلب فريقا على فريق او عائلة على عائلة ، او أخ على اخيه .كنا ندعو جهارا الى اختلاط الحارات والتعايش العائلي عوضا عن التطهير العائلي، وجعلها كنتونا كأن البلدة تسكنها شعوبا منفصلة عن بعضها ، لها ميزاتها وتقاليدها ،غير ما نقول في احاديثنا اليوم (..) هذا كلام يذهل ويشعر بالدهشة عند المستمع وكأن الاحداث جرت في بلدة أخرى – ص147.

هذا يعني ان الجهد الذي قام به الدكتور خليل الدويهي يحمل أهمية وضرورة حماية الذاكرة التي مر عليها الزمن فحولها وبدلها الى الأفضل ربما فقط بفضل من اجتمع من شباب ،في حركة صارت خلال الستينيات، وتركوا اثرا وربما مع غيرهم .كما ان الكتاب افرد في “يوميات” كلوحة وثائقية تبدأ من نيسان 1965 الى كانون ثاني 1967يضع فيها القارئ بأجواء تلك المرحلة احداثا وندوات ومحاضرات وخلافه وينتقل بعدها الى اماكن اخرى ترفد الجدارية التي سعى فيها د. خليل لتحويلها الى عمل ادبي وثائقي ،شخصي وعام ،مستعينا بمخزون الذاكرة واليوميات والمدونات مدعومة بالوثائق المثبتة وهي على اهمية كبيرة وتقدم معلومات واسعة:

اعتبارا من اسماء المنتسبين في “حركة الشباب” والرسائل الداخلية الموجهة الى الأعضاء والبيانات الصادرة ورسائل المنتسبين الجدد وصورعن نشاطات وأرشيف من الجرائد التي نشرت مقالات حول احداث ومناسبات ومنها لحريق تعرض له مركز “الحركة” وبيانات من قيادات سياسية صدرت في حينها وتقارير عن المالية ووضع الموازنة التي كانت الحركة تتصرف بها وثبت بمصدرها من اشتراكات الاعضاء و برنامج مؤتمر عقد لبحث ومناقشة تطور الحركة ووضع ميثاق لها جرت أعماله في تموز 1969.

لعل كل ذلك ،بكل ما سبق، يسمح بفتح باب للدخول الى هدف الكتاب وهو اساسا عن حركة الشباب الزغرتاوي التي اهتمت بتحسين واقع كانت تحاول تبديله بروح ايجابية . كما كان هدف الكتاب بناء ذاكرة متماسكة حيث تلقف د. خليل الدويهي الموضوع وتحدث عنه قبل ان يمحوه النسيان. اما احتمالات الدراسات الأخرى ،التي قد تضيف ، فهي واردة ايضا للخروج بدروس متنوعة عن المرحلة. انما أولا واساسا اصبح امرا ضروريا وواجبا قراءة ما كتبه دكتور خليل بتمحيص وانتباه فهو يتناول موضوعا نادرا ما اثير وأخرجه بكثير من الحب والاهتمام بكل التفاصيل مع الحرص على الكم الكبير من الوثائق وجمع بينها وبين حضور الذاتية ليكتب عن عقد من الزمن كان طابعه مضطربا و حافلا بالأحلام على حد سواء.   

الكاتب: جان رطل  

الصورة بعدسة: سميح زعتر


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal