الراعي: لا بدّ من الإسراعِ في عقدِ مؤتمر أممي لأنَّ التأخّرَ بات يُشكِّل خطرًا على لبنان

 ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي قداس الاحد صباحا في الصرح البطريركي في بكركي، لمناسبة عيد سيدة لبنان، وألقى عظة بعنوان: “تعظم نفسي الرب … لأن القدير صنع بي العظائم” (لو 1: 46 و 49)، قال فيها: “في بيت أليصابات رفعت مريم نشيدها النبوي: تعظم نفسي الرب، لأنه نظر إلى تواضع أمته. فها منذ الآن يطوبني جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي العظائم، وإسمه قدوس، ورحمته إلى جيل فجيل لخائفيه (لو 1: 46-50). بات نشيدها نشيد الكنيسة بأبنائها وبناتها ومؤسساتها، ونشيد الذين يقرون بعظمة الله، ونشيد الفقراء بالروح والمتواضعين والودعاء. هذا النشيد رفعته مريم، عندما أمت بيت أليصابات الحامل بيوحنا، في شهرها السادس، لكي تحمل إليها البشرى بيسوع، بشرى الخدمة التي دامت ثلاثة أشهر حتى مولد يوحنا. لذا نستطيع القول: إنه نشيد تعظيم الله والخدمة، نشيد الإيمان والأفعال”.

وتابع: “يسعدنا أن نحيي معا عيد أمنا مريم العذراء سيدة لبنان، المرتفع تمثالها على هضبة حريصا الجميلة، ووجهها ويداها المبسوطتان والمملؤتان نعما وبركات موجهتان نحو العاصمة بيروت. وجدير بالذكر أن إنشاء معبد حريصا وتمثال سيدة لبنان يعود إلى سنة 1904، في ذكرى اليوبيل الذهبي لعقيدة الحبل بلا دنس التي أعلنها الطوباوي البابا بيوس التاسع في 8 كانون الأول 1854. إن جمال تمثال العذراء الأبيض هو رمز لنقاوتها وامتلائها من النعم الإلهية. إننا نلتمس شفاعتها لدى الله كي يقدسنا بنعمته، وينقي قلوبنا، وينصرنا على الخطيئة والشر. في هذا اليوم الذي تحتفل فيه الكنائس الأرثوذكسية الشقيقة بعيد الفصح المجيد، فإنا نقدم لها أخلص التهاني والتمنيات، ملتمسين من المسيح الإله القائم من الموت، أن ينصرنا بنعمته على قوى الشر. وفيما وباء كورونا يفتك بشعبنا وبالعالم كله، ويشل حركة الكرة الأرضية، ويزيد من أعداد ضحايا الجوع والحرمان، نصلي إلى الله كي يبيد هذا الوباء، ويشفي المصابين. ونخص بصلاتنا سكان بلاد الهند حيث بلغت الإصابات والوفيات أعدادا مرتفعة ومقلقة للغاية. ونوجه عاطفة شكر إلى الدول التي تمد لهم أيادي المساعدة الطبية والغذائية. ونحن نعرب عن قربنا الروحي منهم. أنشدت مريم عظائم الله لها، هي الأمة المتواضعة (لو 1: 48-49). فتنبأت عن هذه العظائم التي أعلنتها الكنيسة فيما بعد عقائد إيمانية، وأخصها:

أ- الحبل بها، منذ اللحظة الأولى، في حشى والدتها القديسة حنة من دون دنس الخطيئة التي يولد فيها كل إنسان، والموروثة من أبوينا الأولين، آدم وحواء.

ب- الحبل بابن الله الذي أخذ جسدا بشريا منها بقوة الروح القدس، ما جعلها أم الإله في طبيعته البشرية.

ج- ميزتها كأم وبتول، عذراء في الحبل والولادة وبعدها.

د- شريكة إبنها الفادي الإلهي في آلامه حتى أقدام الصليب.

ه-أمومتها الروحية لكل إنسان بشخص يوحنا: “هذا إبنك! وهذه أمك” (يو 19: 26-27). بكلمة “نعم” عند البشارة أصبحت مريم أم يسوع التاريخي، وبكلمة “نعم” الصامتة على أقدام الصليب، أصبحت أم المسيح السري أي الكنيسة، وأم البشرية جمعاء.

و- إنتقالها بالنفس والجسد إلى مجد السماء، وتتويجها من الثالوث القدوس، الآب وهي إبنته، والإبن وهي أمه، والروح القدس وهي عروسته، سلطانة السماوات والأرض”.

وأضاف: “مريم، التي أجرى فيها الله هذه العظائم، وجدت نفسها مدعوة إلى الخدمة التي أعلنتها للملاك: “أنا أمة الرب” (لو 1: 38). فتلتقي هكذا نبويا مع كلام إبنها يسوع عن نفسه: “إبن الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم، ويبذل نفسه فدى عن الكثيرين” (متى 20: 28). فجعل خدمة الجماعة شرف صاحب أية مسؤولية في العائلة والمجتمع والكنيسة والدولة. لو تحلى المسؤولون عندنا بثقافة الخدمة، لما أوصلوا بلادنا إلى إنهيار المؤسسات الدستورية والسيادة الإستئثارية على الأرض والإقتصاد بكل قطاعاته والمال، ولما أوقعوا المواطنين في حال الجوع والعوز حتى أضحى نصف الشعب اللبناني تحت مستوى الفقر، ولما ضربت الطبقة الوسطى التي كانت تشكل ركيزة الإستقرار في المجتمع اللبناني وتفوق 80% من شعبنا. السياسة هي فن خدمة الخير العام وبالتالي قيمة الحكام هي في إنقاذ المجتمع الذي كفوا بإدارته، لا في إغراقه بأزمات مفتعلة. ومعيار الحكمة في الحوار والاتفاق لا في التباعد وتعميق الاختلاف. وما لم يلتزم المسؤولون هذه القواعد، سيعرضون البلاد للانهيار الأكبر. الدولة اللبنانية التي كانت أنجح دولة في الشرق الأوسط والعالم العربي، لا تحتاج إلى وساطات ومساع وضغوط من أجل تأليف حكومة، بل إلى إرادات حسنة وطنية وشعور بالمسؤولية، وإلى احترام الدستور والميثاق”.

وتوجه للمسؤولين: “الحكومة ليست لكم بل للشعب. الوزارات ليست لكم بل للشعب. الحكم ليس لكم بل للشعب. المؤسسات ليست لكم بل للشعب. كفى شروطا لا تخدم الوطن والمواطنين، بل مصالح السياسيين. هذه هي الأسباب التي حملتنا على المطالبة بعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان، وبإعلان حياد لبنان. تؤكد الممارسة السياسية أن لبنان، مهما طال الوقت، لا يقوم من حالته من دون مؤتمر دولي يعلن حياده. خارج هذا المسار سيبقى لبنان يخرج من أزمة إلى أخرى، ومن حرب إلى أخرى، ومن فشل إلى آخر، ويعطي انطباعا بأننا شعب لا يعرف أن يحكم نفسه بنفسه. وأصلا هذا هو هدف الذين يمنعون تأليف الحكومة وإعادة بناء الدولة”.

ورأى أن “مسؤولية الأمم المتحدة والدول الصديقة الذهاب إلى عمق القضية اللبنانية، وإلى جوهر الحل. صحيح أننا بحاجة إلى حكومة، لكننا بحاجة إلى حل القضايا والصراعات التي تمنع من أن يكون لبنان دولة في حالة طبيعية”.

وقال: “أما ما نشكو منه فهو: منع تأليف الحكومات وإجراء الانتخابات النيابية والانتخابات الرئاسية، ومنع تطبيق الدستور وتشويه مفهوم الميثاق الوطني، وتعطيل النظام الديمقراطي، والحؤول دون تثبيت سيادة الدولة عبر جيشها داخليا وعلى الحدود، كل الحدود، ومنع إنهاء ازدواجية السلاح بين شرعي وغير شرعي، وإعادة النازحين السوريين إلى بلادهم، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين الموجودين على الأراضي اللبنانية”.

وتابع: “إن معظم هذه القضايا تستلزم مساعدة دولية لأن مصدرها ليس لبنانيا بل جاءتنا نتيجة صراعات عربية وإقليمية ودولية استغلت انقساماتنا العبثية. إن ميثاق الأمم المتحدة ونظامها الداخلي مليئان بالمواد التي تجيز عقد مؤتمر أممي لحل هذه القضايا. فلا بد من الإسراع في عقد هذا المؤتمر لأن التأخر بات يشكل خطرا على لبنان الذي بنيناه معا نموذج الدولة الحضارية في هذا الشرق، ويستحق الحياة”.

وشكر لقادة المملكة العربية السعودية “إعادة السماح للشاحنات اللبنانية بالدخول إلى أراضيها”، وتمنى أن “تعيد النظر أيضا بقرار حظر المنتوجات الزراعية نظرا لانعكاساته السلبية على الشعب تحديدا”. وقال: “إن أجهزة الدولة باشرت بدهم أوكار المهربين وتجار المخدرات. من واجب الدولة أن تكافح بجدية هذا الوباء الصحي والاجتماعي، وأن تبسط سلطتها على المربعات والمناطق حيث السلاح المتفلت يحمي زراعة المخدرات وتجارتها وتصديرها. وكم طالبنا الدولة أن تقفل جميع المعابر غير الشرعية وتراقب بجدية المعابر الشرعية كذلك، وتقبض على عصابات التهريب”.

وختم الراعي: “نكل إلى عناية أمنا مريم العذراء سيدة لبنان كل أمانينا، راجين منها حماية وطننا ليظل أرض المحبة واللقاء والحوار والقداسة. فنرفع معها نشيد التعظيم لله على ما يجري من عظائم في الأرض، آمين”.


مواضيع ذات صلة:


 

Post Author: SafirAlChamal