الإساءات إلى خير خلق الله أجمعين!… بقلم د. عبد الإله ميقاتي

يكثر الحديث في هذه الأيام حول الإساءة الكبرى التي حملتها للمرة الثانية، الصحيفة الفرنسية ″تشارلي إيبدو″، وما فيها من رسوم مسيئة للإسلام ولنبي الرحمة، خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد عليه الصلاة والسلام، رافقها إسلامُ السجينة صوفي الفرنسية، وعودتها بعد السجن في مالي إلى فرنسا، وكيفية تراجع استقبال الرئيس الفرنسي ماكرون عن استقبالها، عندما علم بإسلامها، وقوله بأن ″الإسلام يمر في أزمة في جميع أنحاء العالم″. كما تزامن ذلك مع ردة فعل متطرفة بقتل أستاذ فرنسي، تلاها أعمال عنف وقتل، في نيس وغيرها من المدن الفرنسية، وتتابعت حتى كتابة هذه السطور.

وقد استدعت هذه الأمور تصريحات واسعة لرؤساء دول، ومسؤولين كثر في العالم الإسلامي، شاجبة مستنكرة ورافضة لما يجري من عنفٍ وقتل، بالإضافة إلى حملةٍ كبيرة، واسعة وسريعة الإنتشار على وسائل التواصل الاجتماعي، لم تخل في كثيرٍ منها من عنفٍ وشدة، تارة من هنا، وتارة من هناك، وكل ذلك لا يُعوَّل عليه في منفعة مباشرة لهذا الطرف أو ذاك، بل على العكس من ذلك.

يُروى أن الإمام الشيخ الشعراوي رحمه الله، سئل عن رأيه في كتاب أحد المستهزئين بالإسلام الذي كثر الحديث عنه في التسعينات، فردّ قائلاً: لم أقرأه، ولن أقرأه. فقالوا: كيف وقد كثر الكلام عنه؟، فقرأ عليهم، قول الله تعالى: “وقد نزّل عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذاً مثلهم، إنّ الله جامعُ المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً” (النساء – 40).

وكان كفار قريش يقولون قصائد في ذمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام، ولم تصل لنا هذه القصائد لأن المسلمين لم يتناقلوها، بل أهملوها فاندثرت. وكان الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول: “أميتوا الباطل بالسكوت عنه، ولا تثرثروا فيه فينتبه الشامتون”. ويقول تعالى في محكم التنزيل: “فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين* إنا كفيناك المستهزئين* الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون* ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون* فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين* واعبد ربك حتى يأتيك اليقين” (الحجر – 94 ÷ 99).

وقفة قصيرة، مع الآية الكريمة، الصغيرة في حروفها، العظيمة في مضمونها: “إنّا كفيناك المستهزئين” الموجهة من رب العالمين، إلى خير خَلْقِ الله أجمعين، وما فيها من رسالة بليغة إلى كل العالمين، بأنّ كل إستهزاءٍ، من رسومٍ مسيئة، أو تعابير بذيئة، أو تجنياتٍ وضيعة، لا ولن تمسّ من عظمة هذا الرسول الكريم، ذو الخُلُق العظيم، وليكن الردّ عليها بالسجود… “وكن من الساجدين” لأن الإنسان في سجوده هو أقرب ما يكون إلى رب العالمين، وهذا القرب هو الدواء الناجح لضيق الصدر بما يقول المسيئون والمستهزئون.

قد يقول قائل إنّ الأزمنة اختلفت، وإن وسائل التواصل الاجتماعي، المنتشرة بشكل واسع، تنقل الغث والسمين. والإتهامات الباطلة تتطلب ردوداً واستنكاراً ورفضاً وهجوماً مضاداً أحياناً، واستنكاراً وعنفاً مماثلاً….

لا شك في أن القوانين الدولية، والعقود والعهود والمواثيق، تمنع الإساءات للشرائع والعقائد السماوية وتدعو إلى نبذ الكراهيات الدينية. وقد أصدر الأمين العام للأمم المتحدة في 2 شباط 2006 بياناً أعرب فيه عن “قلقه إزاء الجدل الذي أفرزه نشر الرسوم الكاريكاتورية من جانب الصحافة الدانماركية (وكانت جريدة Jyllands-Posten قد نشرت رسوماً مسيئة للإسلام والمسلمين)، وأنه يؤمن بأن حرية الصحافة يجب أن تُمارس بطريقة تَحترم تماماً المعتقدات الدينية”.

يجب علينا أن لا ننظر إلى الرسوم المسيئة والتصاريح الجاحدة على أنها مواجهة بين الإسلام والمسيحية، ولا على أنها مواجهة بين دول غربية وأخرى إسلامية. بل على أنها نشاطٌ فكريّ مشبوه، ومردودٌ على صاحبه، وعلى أنها شعارات فارغة من محتوى علمي ثابت، بل تثبت جهل صاحبها بالإسلام وثوابته. وعلينا أن نعمل على مواجهة زيفها وادعاءاتها بالحجج العلمية والبراهين الثابتة، وما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية، وما قام به وطبّقه الحكام المسلمون، وما حملته الحضارة الإسلامية على مدى قرون متتالية من علوم نافعة، ومؤسسات ناجحة، وتطور عمراني شاسع، وانتشار كبير للإسلام وعلومه الواسعة، بفضل دعوةٍ إلى الله صالحة صادقة، خالصة لوجه الله، أثبتت نجاحها نجاحاً منقطع النظير. والدعوة إلى الله، ليست عبادة وحسب، بل هي أيضاً في كل ما ينفع البشرية ويسهم في عمارة الأرض وتطور الحضارة.

علينا أن ندرك باليقين الثابت، أن التطرف في ردات الفعل، يجرّ تطرفاً قد يكون أشدّ وأشرس، وقد يكون هذا التطرف مقصوداً في ذاته، من قبل الذين يمكرون بالإسلام والمسلمين، للتغطية على سماحة الإسلام، واعتداله وانتشاره المتزايد والمتواصل في الغرب.

وفي هذا الإطار جاءت دعوة الأزهر الشريف على لسان سماحة شيخ الأزهر الفاضل للعمل على مشروع قانون يتم تقديمه إلى المجتمع الدولي من خلال مجلس الأمن الدولي، يحرّم التعدي على الشعائر الدينية والرسالات السماوية والأنبياء والرسل أجمعين، ويضع العقوبات الرادعة والمناسبة على المخالفين. كما أنه لا يجوز بشكل من الأشكال، أن تؤخذ رسالة سماوية سامية بجريرة جرمٍ أو عملٍ شائنٍ يقوم به كائناً من كان، مهما رفع من شعارات أو ردد من كلمات.

وكما جاء في بيان الأزهر الشريف، تعليقاً على هجوم نيس الفرنسية، حيث يقول البيان: “إن الأزهر الشريف إذ يدين ويستنكر هذا الحادث الإرهابي البغيض، فإنه يحذر من تصاعد خطاب العنف والكراهية”. ودعا الأزهر إلى تغليب صوت الحكمة والعقل، والإلتزام بالمسؤولية المجتمعية، خاصة عندما يتعلق الأمر بعقائد وأرواح الآخرين.

بدوره رئيس أساقفة مدينة تولوز الفرنسية روبرت لوغال أكد على ضرورة احترام الأديان وعدم الإساءة لها، وقال إن حرية التعبير لها حدود. وحذر من خطورة نشر الرسوم المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) والتي تعتبر إساءة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء، ونشرها بمثابة صب زيت على النار.

يقول تعالى: “يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات – 13). والتعارف يقتضي التواصل، بهدف تلاقح الحضارات. وهذا بدوره يتطلب الحوار بالحسنى، عملاً بقوله تعالى: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة” (النحل – 124).

يقول الحكماء: “الحكمُ على الشي فرعٌ من تصوره”. فالتطرف الفكري والعملاني (الإرهاب) يغزو العالم بأسره، ويتصاعد بوتيرة واضحة. وهو ليس وليد الحاضر. بل إن جذوة التطرف والإرهاب تمتد إلى الماضي، والماضي البعيد. وعلماء الاجتماع يستشهدون على ذلك بالوقائع والتواريخ وأعداد الضحايا التي يحصدها. وهذه الجذوة لا دين لها، ولا عقيدة، ولا منظومة واحدة. خطابها دائماً موجهٌ إلى النفس والغريزة، وإلى إستثارة العواطف والمشاعر، وليس نحو العقل. ومعلوم أن خطاب النفس والغريزة أسرعُ في الوصول إلى المخاطَب من خطاب العقل. وهو أسرعُ انتشاراً في بيئات سِمَتُها الفقر والجهل والظلم. وهو خطابٌ يستخدمه الطامعون في سلطانٍ وجاهٍ ومال، لتحقيق أهدافهم ومبتغاهم. ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مطيّةً فاعلةً في الوصول لهذه الأهداف، وفي انتشارها الواسع بين الناس. لذلك ليس عجبا ما نشهده من نمو ظاهرة التطرف في العالم منذ منتصف القرن الماضي وإلى يومنا هذا، ومن الخطأ الفادح أن نلُبسها ثوب الإسلام، أو أي دين أو شريعة سماوية.

ومواجهةُ ذلك تتطلب دعوةً إلى الله بالحسنى، وبالحكمة والموعظة الحسنة، دعوةً صادقة أمينة، خالصةً نقية، علميةً حكيمة، مرتكزةً على الإعتدال والوسطية، مدركةً لمخاطر المرحلة ودقتها، مستفيدةً من كل الوسائط الإعلامية وتنوعها، مسلحةً بالحجة والبرهان والتجربة، مخاطبةً للناس على قدر عقولها ومداركها وأعمارها، موقنةً بأن الصراع بين الخير والشر لا يتوقف منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، وإلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، مؤمنةً بأن الإسلام هو دين المعاملة، دين عمارة الأرض، دين السلام في الدنيا، ودين الدعوة إلى العلم وبناء الذات والمجتمع والحضارة الإنسانية. وكل ذلك هو الطريق إلى الآخرة. فالدنيا دار ممرّ والآخرة دار مقرّ. والدنيا دار عمل ولا حساب، والآخرة دار حساب ولا عمل.

الكاتب: الدكتور عبد الإله ميقاتي

عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى

Post Author: SafirAlChamal